يقول إيريك هوفر إن مارتن لوثر «رائد الإصلاح الديني» كان مرشحاً محتملاً لكرسي البابوية، وعندما فشل في ذلك شنَّ هجماته الموجعة ضد الكنيسة وتعاليمها وقوانينها. والطريف أنه بعد أن أصبحت البروتستانتية تياراً عريضاً وأصبح لوثر على رأسها وتمتع بالحظوة والأبهة، غدا ينصح الفقراء والمسحوقين بالصبر على ظلم الإقطاعيين، ويمنِّيهم بالجنة ونعيمها في حال صبرهم! وحقيقةً إن المجتمعات الأوروبية لم تكن بحاجة إلى إصلاح ديني لأن معظم هذه المجتمعات علمت جيداً بحلول 1300م أن بعض مديري الكنائس هم مجرد بشر فاسدين يمكن شراؤهم بالمال أو قمعيين متحيزين، كما عبَّر عن ذلك ويل ديورانت. فلم يصل العام 1400م إلا وبدأت الانشقاقات البابوية، والتصدعات باتت تهدد البيت الكنسي! فكانت حركة لوثر مجرد رصاصة رحمة على الكاثوليكية. ولا يحتاج الأمر إلى القول إن الكنيسة الكاثوليكية كانت هي رأس السلطة ومصدرها في أوروبا إبان العصور الوسطى، ولم تكن موجة الإصلاح الديني التي اجتاحت أوروبا إلا استهدافاً لسلطة الكنيسة في المقام الأول. وتلا تلك الموجة نزاعات محتدمة بين البروتستانت وحركة النهضة الوليدة للسيطرة على كنيسة روما، مما يعني أن النزاع كان سلطوياً بالدرجة الأولى! ولو نظرنا للإصلاح الديني لوجدنا أنه يعد في مجمله طرح آراء أكثر تسامحاً وعدلاً في الدين من تلك الآراء المتزمتة، ومن البديهي أن يتسم هذا الطرح بالتأصيل العلمي المبني على أدلة معينة. لكن لنسأل نفس السؤال الذي طرحه هيغل حول التنوير بعدما ظهر مصطلح «الاستبداد المستنير» في بروسيا إبان حكم فريدرك الثاني: «بعدما يتم التخلص من كل هذه التعصبات والخرافات يبرز السؤال: وماذا بعد؟!». فنحن نعلم جميعاً أن فهم الدين متنوع ومتباين منذ عصر النبوة، والآراء والطروحات المتطرفة لا تنفك عن ملاحقة أي أدلجة مهما كانت بساطتها، لكن الاعتبار يعود بالطبع إلى أي الفهومات التي تقنن أو تفرض. فأمريكا بديمقراطيتها وتقدمها… تعيش فيها طائفة «الآميش» الأكثر انغلاقاً وتشدداً أوصلها حتى لتحريم التعامل بالعملات الورقية! لكنها بالطبع لا تستطيع فرض تزمتها على المجتمع والدولة. كما حصل في تاريخنا الإسلامي مع طروحات ابن رشد الإصلاحية التي لم تتجاوز التسامح في مفهوم الإيمان والسعة في الفقه بعيداً عن أي إصلاح لعلاقة الدين بالسياسة، بالتالي اندثرت طروحات ابن رشد الإصلاحية لسبب بسيط، هو أنها لم تتبنَّها أي سلطة كرأي رسمي وخط عريض لعلاقة الدين بالمجتمع والدولة! والحديث في هذا المجال يطول ويطول، فكذلك كتاب «أحكام النساء» لابن حنبل الذي جمعه تلميذه أبوبكر الخلال، الذي يعد كتاباً «ليبرالياً» مقارنة مع طروحات الحنابلة المتأخرين، لم تتبنَّه أي سلطة لأن يكون مرجعاً للأحوال الشخصية، بالتالي كان من الطبيعي أن يتحرج الحنابلة أنفسهم من إدراج هذا الكتاب ضمن دروسهم العلمية.