جاءت مناسبة زيارة بابا الكنيسة الكاثوليكية: بنيديكتوس الرابع عشر إلى بريطانيا في سبتمبر الماضي، كفصل جديد من فصول الحرب المستعرة بين الكنيسة البابوية الرومانية وأفكار العصور الحديثة التي طردت الكنيسة من البوابة المقدسة التي وضعت نفسها فيها منذ ما ينيف على ألف سنة في الغرب. الفصل الجديد لم يأت بجديد غير تأكيده للبابا مرة أخرى على أن زمن القرون الوسطى الذي كان يُنظر فيه لرجال الدين على أنهم وسطاء بين الله وخلقه، وأنهم بالتالي فوق المحاسبة، قد ولَّى إلى غير رجعة. مثلما أكد له أن لا مناص من القبول الاضطراري للوضع المدني للمرجعيات الدينية الغربية، والذي حوَّل مؤسسة الفاتيكان، كبرى المؤسسات الدينية في الغرب، لا إلى مؤسسة مدنية من ضمن مؤسسات المجتمع فحسب، بل نزل بها إلى حد أصبحت فيه مجالاً رحباً للتهكم والاتهامات بشتى التجاوزات التي تتحاشى الوقوع في براثنها كافة مؤسسات المجتمع الأخرى، كالتجاوزات الجنسية بحق الأطفال من قبل بعض رجال الكنيسة، مما حدا بالمعترضين على زيارة البابا لبريطانيا، وهم كثر، إلى المطالبة باعتقاله على خلفية تلك التجاوزات التي غلفتها الكنيسة البابوية برداء التغاضي والصمت. هكذا أنزلت العلمانية بابا روما من مقدس ينفح بركاته على المؤمنين برسالته، إلى شخص متهم بالتستر على جرائم بشعة، وإلى أن يكون موضعاً للمطالبة باعتقاله كأي مجرم آخر!. وإن تعجب فعجب ذلك الاتفاق في الموقف من العلمانية بين عتاولة الأصوليين الإسلاميين والبابا، ذلك أن كلاً منهما يلعن العلمانية وينادي بإحلال الدين بدلاً منها في منظومة الممارسة السياسية، لأن كلاً منهما يدرك أنها العائق البنيوي الأكبر أمام طموحاته السياسية الثيوقراطية!. اتخذت زيارة البابا لبريطانيا مضموناً راديكالياً ينضح بالهجوم الصريح على العلمانية والحط من قدرها. التباشير الأولى لمضمون الزيارة كان قد ظهر مبكراً من تصريح أدلى به مبعوثه (الكاردينال كاسبر)، الذي سبقه إلى هناك في زيارة ترتيبية، أشار فيه إلى: "أنّ انطباعه وهو ينزل بمطار هيثرو يشعره وكأنه في بلد من بلدان العالم الثالث"، في إشارة منه إلى التعددية الدينية والمذهبية التي تمارس نشاطاتها على الأرض البريطانية تحت رعاية العلمانية التي دشنها التنوير الغربي كإطار للعقد الاجتماعي. خلال فعاليات الزيارة، كانت العلمانية بالنسبة للبابا العدو الأوحد الذي ركز عليه سهام نقده الحادة. فقد اعتبرها "الشرّ الأكبر الذي لا بدّ من التصدّي له"، والتصدي لذلك الشيطان لن يكون، وفقاً للبابا، إلا على ظهر حصان التمكين للأخلاق الدينية المسيحية لكي تسود العالم مكانها!. وهو بهذا الهذيان ليس إلا وفياً للخط الكنسي القروسطي للبابوات الذين سبقوه، كسلفه البابا بيوس العاشر(1835 1914م) الذي أصدر في عام 1908م فتوى (...) ب"كفر الاشتراكية والليبرالية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وتكفير من يؤمن بها"، والسؤال المناسب لحالتنا الإسلامية هنا هو: هل ثمة فرق بين هذه النظرة البابوية تجاه الأفكار التنويرية الحديثة، وبين مسلك الأصولية الإسلامية الحالية تجاه نفس الأفكار؟ أظن أن الجواب بادٍ للعيان، فليس ثمة فرق فحسب، بل هناك تطابق تام في المواقف، رغم ما يبديه كل منهما للآخر من تكفير وعداوة مقدسة! لكن السؤال الذي يطرح نفسه على خلفية الحديث عن تلك الزيارة هو: لماذا هاجم البابا العلمانية وهو يعلم أنها حجر الزاوية في بنية النظام الديمقراطي الليبرالي الغربي المعاصر، والتي لولاها لانهارت البنية من قواعدها؟ لا يمكن الجواب على سؤال كهذا إلا إذا نحن موضعنا مسألة العلاقة بين السياسة والدين في الغرب ضمن سياقاتها التاريخية في القرون الوسطى، حيث كانت ألوهية بابا روما ومن معه من رجال الدين غير موضوعة للمناقشة، ناهيك عن أن تكون موضوعاً للمساءلة. في القرون الوسطى كان الغرب يتنفس أيديولوجيا دينية تنظر للحياة الدنيا على أنها مجرد محطة سفر، وبالتالي فمتاعها زائل لا قيمة له، مقابل المحطة الأخروية الدائمة التي يتطلب الفوز بها التضحية بكل شيء، بما في ذلك النفس. وذلك الفوز لا يؤتاه الإنسان آنذاك إلا بدمغة رجل الدين الذي يمثل المندوب اللاهوتي المفوض لهداية الناس إلى سبيل الرشاد الكنسي!. المشكلة لم تكن كامنة حينها في تلك النظرة التجزيئية اللاعقلانية، والبعيدة كل البعد عما قصدته الأديان التوحيدية عندما دشنت ثنائية الدنيا والآخرة، بل إنها كانت كامنة تحديداً فيما أحلَّته الكنيسة البابوية، منذ التحامها بالسياسة على وقع تنصر الدولة الرومانية في بداية القرن الرابع الميلادي، من قيم وثنية يأتي على رأسها ما كانت تزعمه من أن رجال الدين يمثلون الواسطة الضرورية بين الناس وخالقهم. وهي وساطة كانت تضع رجل الدين، لا فوق المساءلة والمحاسبة فحسب، بل وأيضاً فوق الشبهات والشكوك، لأنه كانت بمثابة القنطرة التي لا بد للإنسان المؤمن من أن يمر بها لمعرفة ربه أولا، ولقبول عمله عنده ثانيا. ومن هنا الحسرة والأسى والتأوهات التي تنتاب رجال الدين في الغرب كلما تذكروا تلك الأيام الخوالي التي كانوا خلالها، لا ملوكاً وأباطرة فحسب، بل مندوبين مفوضين من الله تعالى الله عما يزعمون يهبون الجنة لمن ينفحونهم رضاهم، أما من يناصبهم العداء فمصيره الشقاوة والحسرة في الدنيا، وفي الآخرة الرمي في دار البوار. لعل أفضل وصف لمناخ فكر العصور الوسطى الذي كان يتنفس فيه البابا ورجاله الألوهية المطلقة ذلك الوصف الذي نجده عند المفكر الفرنسي المعاصر:(جورج غوسدورف) فيما ينقله عنه هاشم صالح في كتابه: (مدخل إلى التنوير الأوروبي)، حيث يقول: "في النظام المسيحي التقليدي كانت المؤسسة الكهنوتية هي المحل الوحيد لإقامة العلاقة بين الإنسان والله. وكان ينبغي على هذه العلاقة أن تتجسد من خلال نظام المراتبيات الهرمية للكنيسة بشكل إجباري. كانت الكنيسة هي وسيلة التوصل إلى (التعالي!)، ولكنها أصبحت فيما بعد غاية في حد ذاتها. وهكذا خلعت القدسية على نفسها وطابقت بين ذاتها وبين الحقيقة الإلهية على الرغم من أنها مؤسسة بشرية. وأصبح من المستحيل التفريق بين خدمة الله وخدمة الكنيسة. إن النزعة الإكليروسية تظل إغراءً مستمراً بالنسبة لأولئك الذين يمتلكون سلطة التقديس:أي رجال الدين. وهكذا راح رجال الدين يخلطون بين رغباتهم ومطامحهم الشخصية، وبين القداسة الإلهية". ويعلق هاشم صالح على هذا الكلام بقوله: "وانطلت الحيلة على عامة البشر فلم يعودوا يستطيعون التمييز بين رجال الدين وبين الدين نفسه". النزعة الإكليروسية تظل إغراءً لا يقاوم بالنسبة لرجال الدين، نعم، ولكن هذه النزعة لا يؤتاها رجال الدين إلا في سياق فكر ديني يمد أشرعته على كل مناحي الحياة، كما هو مناخ القرون الوسطى في الغرب، وكما هو المناخ الفكري في العالم الإسلامي اليوم. وإذا كان السياق القروسطي الغربي قد قُضي عليه هناك بفضل الحداثة السياسية والدينية المتوجة بالفصل التام بين الدين في نقائه وطهارته وبين ألاعيب وتلويثات ومطامح السياسة، بما فيها مطامح رجال الدين، فإن العالم الإسلامي لا يزال يرزح اليوم تحت ثقل التحام السياسة، لا بالدين كما نزل من عند الله، بل بفكر ديني دُشن في الذهنية الإسلامية نتيجة لصراعات سياسية ماضوية. وهو التحام أدى إلى أن يقيد معظم الناس حياتهم لتكون رهناً لمزاجية رجل الدين، فما أحله فهو الحلال، وما حرمه فهو الحرام. من غير المستغرب أن تبدأ زيارة البابا لبريطانيا وتنتهي وهو واقع تحت تأثير رهاب العلمانية، يسوق لها الشتائم ويلمزها بكل عيب ومعرة، لأن هذه العلمانية هي التي قلمت أظافر إكليروسيته ومن معه من زمرة الكرادلة والقساوسة والمطارنة، إلى الحد الذي أنزلت فيه مؤسسة الفاتيكان من عليائها كبيت إلهي مقدس، إلى مجرد مؤسسة مدنية من ضمن مؤسسات المجتمع الكثيرة. وإن تعجب فعجب ذلك الاتفاق في الموقف من العلمانية بين عتاولة الأصوليين الإسلاميين والبابا، ذلك أن كلاً منهما يلعن العلمانية وينادي بإحلال الدين بدلاً منها في منظومة الممارسة السياسية، لأن كلاً منهما يدرك أنها العائق البنيوي الأكبر أمام طموحاته السياسية الثيوقراطية!. لا يمكن للبابا أن ينسى ذلك الزمن الذي كانت الشعوب الأوروبية تُحكم فيه بواسطة ما كان يطلق عليه حينها "الحق الإلهي للملوك" الذي كان يعطي الأحقية للملوك والأباطرة، ومن خلفهم من يزكونهم شرعاً: البابا ومفوضوه، في أن يسوموا الناس سوء العذاب باسم الله تعالى وبمباركته، تعالى الله عما يزعمون علواً كبيرا. من أهم نتائج الفصل بين السياسة والكنيسة في الغرب، والذي كان حجر زاوية الحداثة الغربية المعاصرة، إعادة العلاقة بين الإنسان وربه إلى طريقها الصحيح بجعلها مباشرة بينه وبين خالقه لا تمر عبر رجال الدين. وهو الفصل نفسه الذي جاء به الدين الإسلامي لتصحيح انحرافات العهدين القديم والجديد. وهو إجراء حاسم في مجال الإصلاح الديني تلقفه رائد الإصلاح الديني في أوروبا: الراهب الألماني مارتن لوثر(1483 1546م) الذي أدت جهوده الإصلاحية إلى تدشين مذهب مسيحي جديد هو المذهب البروتستانتي منشقاً عن الكنيسة البابوية الكاثوليكية. وللمقال صلة.