تاريخنا حافل بصور مضيئة ومشرفة تروي قصص رجال أفذاذ وهبوا أنفسهم وحياتهم لخدمة دينهم وأمتهم ومن هؤلاء مؤسس هذه البلاد المباركة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود – طيب الله ثراه – إن بوصلة الحديث في هذا المقال ستتجه نحو جانب مهم ومضيء من الجوانب الإنسانية لشخصية الملك المؤسس نستخلص من خلالها كيف استطاع أن يوحِّد الصفوف، ويجمع كلمة الأمة، ويستميل إليه قلوب الخصوم قبل الأصدقاء، وهذا الجانب قد يكون خفياً عن بعض الناس أو يُعتقد عدم وجوده، إنه الحوار، وقد يقول قائل: وهل كان هناك حوار يدور بين الملك وغيره وقد يستغرب ويدهش بعضُ الناس من مثلِ هذا الكلام؛ لكونه لم يطلع على كل السمات الشخصية للملك المؤسس، وقد يقول: إنه لم تكن هناك لغةٌ سوى لغةِ السيف فهي الحكمُ الفصلُ في كل مجريات الأحداث التي مرت بها بلادُنا في أثناء فترة التأسيس. لذا سأتناول هذا الجانب الإنساني المهم لكي أبرزه ويعرف الجميع أن هناك حوارات دارت بين الملك المؤسس وخصومه وبينه وبين الوفود الزائرة والمفكرين وشيوخ القبائل وعامة الناس، لأنه – طيب الله ثراه – استشعر أهميةَ الحوار والتحاور فوجد فيه طريقاً سليماً للوصول إلى الهدف وبلوغ المرام، بل اتخذه مركباً يعبر به إلى واحة الأمن والسلام، وقد ضمنت بعض من هذه الحوارات في كتاب صدر بعنوان: «آفاق الحوار في فكر الملك عبدالعزيز»، اشتمل على بعض من حواراته مع الأدباء والمفكرين ورجال العلم والساسة والعامة من الناس الذين يفدون إلى مجلسة للبحث عن حلول لمشكلاتهم ومتطلباتهم. فالمؤسس كانت له حوارات سجلتها لنا المصادر والمراجع مع زعماء القبائل، ومع بعض المعارضين للتغيير والتطوير، حيث تمكن بالحوار الهادئ من أن يقنع كثيراً من هؤلاء وأن يستميلهم إليه، فقد وفد إليه – طيب الله ثراه – أثناء مرحلة التوحيد أو عند مرحلة التأسيس كثير من المفكرين والأدباء والعلماء وكان لفطنته وذكائه دور في استقطاب جميع من قدم إليه، وأصبح الأغلبيةُ مستشارين في بلاطه، كل واحد له مهمة يقوم بها، فقد استفاد الملك عبدالعزيز من هؤلاء استفادةً كبيرةً أثناء تأسيسه المملكة، وقد حفظت لنا المصادرُ التاريخيةُ بعضاً من النماذج الحوارية الجميلة التي دارت بين الملك عبدالعزيز وهؤلاء المفكرين والأدباء، وأخص منهم المؤلف: أمين الريحاني الذي قدم إلى الملك عبدالعزيز في مدينة العقير بالأحساء سنة 1341 ه/ 1923م عندما كان الملك ينتظر المبعوث البريطاني «برسي كوكس»، للتفاهم معه من أجل توقيع اتفاقية بين المملكة وبريطانيا، ودارت بينه وبين الريحاني والملك عبدالعزيز حوارات جميلة دوّنها أمين الريحاني في كتابه «ملوك العرب»، ويذكر الريحاني بعد أحد الحوارات مع الملك عبدالعزيز قوله: ومن غريب الأمور أننا في الجلسة الأولى تناقشنا في الموضوع، وما كان ذلك نقص في تأدبي، فلم أكن لأقدم على مساجلته في تلك الساعة لو لم يتقدمني بصراحة علمت بعدئذٍ أنها من سجاياه الكبيرة» كذلك كانت للسيد: عبدالله فيلبي مواقف وحوارات مع الملك عبدالعزيز أثناء قدومه إليه سنة 1336 ه/ 1917م، ذكرها في أغلب مؤلفاته التي ألفها عن المملكة، وأخص بذلك الحوار الذي دار بشأن طلب فليبي القيام بزيارة إلى الجنوب، حيث كان الملك عبدالعزيز متحفظاً على زيارته بسبب خوفه عليه، إلا أن فيلبي تمكن بعد محاورته للملك عبدالعزيز أن يقنعه ويذهب إلى وجهته، وزوده بلوازم الرحلة من زاد ودليل يرشده على الطريق وغيرها. أما المؤرخ الإسلامي «محمد أسد» – رحمه الله – فقد كانت له مواقف حوارية مع الملك عبدالعزيز دوّنها في كتابه «الطريق إلى مكة»، وكما هو معلوم أن محمد أسد قدم إلى المملكة سنة 1345 ه/ 1927م، بغرض أداء فريضة الحج، وتعرف إلى الملك عبدالعزيز في مكة، وطلب الملك عبدالعزيز منه أن يرافقه أثناء عودته إلى الرياض بواسطة السيارات، إلا أن محمد أسد كانت لديه الرغبة في أن يذهب بواسطة الإبل ليدون مشاهداته أثناء رحلته، ودار حوار جميل بينه وبين الملك عبدالعزيز انتهى إلى أن الملك نزل عند رغبته وسمح له بالذهاب بواسطة الإبل بعد أن حذره من صعوبة الطريق وزوده بلوازم السفر ومرشد يدله على الطريق، يقول محمد أسد عن الملك عبدالعزيز: «… كان مظهره الخارجي البسيط يخفي قلباً مثل أعماق البحر، كانت سلطته هائلة، إلا أنها لم تعتمد على القوة بقدر ما اعتمدت على ما توحي به قوة شخصيته؛ حيث مكنته روحه الديمقراطيه الحقة من تبادل الحوارات والتواصل مع البدو الذين كانوا يفدون عليه». وكانت حواراته الاجتماعية كثيرة؛ فمنها الحوار الذي دار بين الملك عبدالعزيز وبعض المعارضين للاتصالات السلكية واللاسلكية، وكيف تمكن – رحمه الله – من إقناعهم حسب فهمهم وطريقتهم؛ لأن بعضاً منهم كانوا يرون أن التعامل مع الغرب والاستفادة من تجاربهم وعلمهم لا يجوز بسبب أنهم كفرة، وأن الاتصالات السلكية ما هي إلا ضرب من ضروب السحر. أما حواراته السياسية فكانت كثيرة وكان أهمها الحوار الذي دار بينه وبين الرئيس الأمريكي آنذاك روزفلت في يناير من سنة 1945م/ 1364 ه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وانتصار دول الحلفاء على دول المحور، وكان الاجتماع في البحيرات المرة بمصر على ظهر الطراد «كوينسي»، وقد تم توثيق هذا الحوار من قبل الكولونيل «وليم إيدي» الذي قام بالترجمة بين الملك عبدالعزيز وروزفلت آنذاك. وختاماً فإن الملك عبدالعزيز كرجل دولة ومؤسس كيان كان يعي جيداً أن السياسة ليس لها صفة الثبات والجمود، بل متغيرة بحسب المصالح وموازين القوى؛ لذلك تميز عن غيره من القادة في التعامل مع المنافسين بعقلية الخصومة وليس العداء، ذلك أن العداء ينبع من الثأر الشخصي في حين الخصومةُ تنبع من تباينِ المصالح واختلافها؛ لذا فإن فكرةَ الخصومةِ أكثرُ ملاءمة للسياسة والدولة من العداء، وكان الملك عبدالعزيز يدرك الأولويات التي تقتضيها كل مرحلة ولا يخلط بينهما، لذا فإن أولويات مرحلة التوحيد تختلف عن أولويات مرحلة التأسيس، وهذا سبب رئيس في تحقيق هذين الهدفين وقد ساعدته حنكته من تجاوز أخطاءِ كثيرة وقع فيها بعض القادة الوحدويين من قبله، وخصوصاً من تابع مسيرة تأسيس الدولة، وبناء المؤسسات؛ فنلاحظ أن الملك عبدالعزيز لم ينشغل بالجزئيات والفرعيات والقضايا الصغيرة، ولم يعطِها أكبر من حجمها حتى لا تشغله عن الهدف الأسمى؛ كونه يعرف أن هذه الجزئيات ستحل تلقائياً بمجرد نجاح مشروع الدولة الوليد.