قبل أشهر من هذا العام، نشرت مجلة الإيكونوميست البريطانية مقالاً بعنوان «كيف تكون بريطانياً؟.. إعادة تدوير الوطنية». وذلك في إشارة إلى جهود حكومية بريطانية لتثقيف المواطنين الجدد حول المسؤوليات والقيم والحقوق، لدعم عملية «التجنيس» المستمرة. كل ذلك في كتيب ثابت تم تحديثه في ثلاث طبعات حتى الآن، تُذكر المواطنين بما لهم وما عليهم. ما لهم من حريات وحقوق وما عليهم من مسؤوليات وواجبات؛ لتمثيل المواطنة والجنسية والبلاد. وهو ليس عامّاً كالدستور، بل هو مفصل لدرجة أنه لا ينسى دقائق الأمور التي تخوّل المواطن أن يكون بريطانياً كلاسيكياً وحقيقياً صرفاً؛ سلوكاً ومضموناً وقيماً مثل: «أن تكون جاراً جيداً، وأن تحافظ على حديقتك نظيفة، وأن لا تضع نفاياتك في الحي أو في الشارع إلا إذا كانت مُعدة لجمعها». وهذه الكتيبات هي بمنزلة عُرف في كل الديمقراطيات الغنية العالمية. وقد كانت الحكومة البريطانية قبل الأزمة الاقتصادية العالمية مؤخراً تدرُس وتراجع مفهوم «البرطنة» السابقة القوية والحالية المتذبذبة في مقارنات عدة، مع رغبة منها في تعزيزها بين المواطنين، من خلال ميزانية وبرامج خاصة جديدة. هناك استخدامان بمعنيين متداخلين للوطنية باللغة الإنجليزية مقارنة بالعربية التي تكتفي بمصطلحات أكثر عمومية. فالفروقات هي بين الوطنية التي تتجلى في الفخر بالوطن من خلال الفخر «بصنائع» الوطن وهي Patriotism، وهو المعنى العام المفضل والأكثر تأييداً، فالوطني بالمصطلح هذا هو مواطن يحب وطنه ويفخر به ويضحي في سبيله، إلا أنه مواطن عالمي يحترم الآخرين. أما الآخر فيأتي بمعنى الفخر بالوطن «أياً ما يصنع» من خير ومن شر، وهي الوطنية بمعنى nationalism، فهي حب البلد كأرض وحكومة أهم حتى من الشعب، وقد يكون ذلك الفخر فخراً أعمى ينطوي على غرور بالأصول حد الشوفينية. أما تعريف الوطنية عالمياً فهي: حب الوطن والتضحية في سبيله، من جميع شرائح وطبقات الشعب. ربما يمكننا ذكر أمريكا كمثال عالمي جيد. هي التي استطاعت أن توجِد الوطنية بين عشرات الأعراق والإثنيات والديانات والأجناس مع هذه الكثافة السكانية، تحت راية واحدة وبنجاح منقطع النظير. هذا إذا ما أخذنا في الاعتبار تلك الفروقات مقارنة بالدول التي يغلب عليها عرق معين أو حتى ديانة معينة كألمانيا أو الصين مثلاً. الوطنية هي واحدة من الأسباب التي جعلت أمريكا تقود العالم. والأسباب ليست سطحية إطلاقاً. فالأمريكيون لديهم إرادة راسخة للعمل والنجاح والتقدم. وأمريكا كدولة تحرّض على هذا العمل والنجاح والتقدم، وتفعّل الصورة الأمريكية العالمية كنموذج غير مهمل. باختصار، لأن ثقافة الأمريكيين تعتمد على أن الوطنية والولاء يتمثلان في القيم values. أمريكا جمعت مواطنيها تحت قيم ومبادئ وقوانين الدستور، فلكي توحّد هذا التنوع الكبير اعتنت بالبلاد بشكل «مؤسسي». طريقة المؤسسات التي تعتمد على إيجاد القيم والرؤية والرسالة لها، وتنشرها على نطاق شامل كهوية، تجعل المواطن يتمسك بها، يتمثلها وتتمثله. هل يختلف قياس الوطنية بين الطبقة الفقيرة والطبقة المتوسطة والطبقة العليا؟ سؤال مثير اهتمت به بعض الدراسات. إلا أنه أمر لا يمكن الإجابة عنه ببساطة وحرفية بشكل عالمي نمطي، فهو مرتبط بأسباب وحيثيات مختلفة. قرأت مرة في استفتاء أمريكي حول قياس الوطنية، كان اللافت أن الجيل الشاب –جيل الألفية- أكثر إيماناً بحاضر البلاد ومستقبلها مقارنة بجيل الطفرة وما سُموا بالجيل الصامت. وهذا أمر ربما سائد عالمياً. فالجيل الحالي عالمياً جيل منفتح على الحياة والنهضة والتقدم والرغبة في الأفضل، أكثر من الأجيال الماضية. وهذا يُحسب لقيمة مستقبل البلدان. بالأمس كان اليوم الوطني الثالث والثمانون، احتفاءً بذكرى توحيد الملك عبدالعزيز (رحمه الله) البلاد. في وطني المملكة العربية السعودية، هناك تماس بين الأجيال من ناحية الوطنية وإن اختلفت تعريفاتها بينهم. هي الوطنية التي تدور حول الفخر والانتماء والعاطفة والغيرة. تلك العاطفة الصحراوية العميقة التي تتجذر فينا على نحو عام. سألت مجموعة من الزملاء: ما هي الأخلاق السعودية؟ وجاءت الأجوبة جميعها ساخرة على نمط الكوميديا السوداء. وقد ذكّرني بعضهم بأن هذا المصطلح لحدث ما تناوله المجتمع بنقد حاد. لم يجِبني أحدهم، على أي حال، جواباً مدنياً حسب مفهوم الأمركة والبرطنة وسواهما. هل نحتاج كتيباً؟ إذن «كيف تكون سعودياً؟». كل عام والوطن وأبناؤه جميعاً، شعباً وحكومة، في وحدة وأمن وتقدم وخير وسلام.