في ثورات الشعوب تصحيحٌ لما خالف الصواب، وتعديلٌ لما جانب الحقيقة، وإصلاحٌ لانحراف البوصلات الوطنية، والاجتماعية، والاقتصادية، والأخلاقية، والعسكرية، والسياسية.. في الدول العربية مثالٌ على انحراف امتد عقوداً طويلةً فأتت رغبة الشعوب العارمة لتصحيح المسار بالثورة والمواجهة.. لقد كان من الصعب رؤية خيبات الأمل، والانكسار ترتسم على وجوه الشباب العربي.. كم كان مؤلماً رؤية الحرمان ينساب في الشوارع، والفقر يتمركز في الأحياء، والبؤس يتشكل في الميادين العربية، والشكوى من الأوضاع المتردية لا تجد مَن يلبيها، في حين يمتلك الحكام العرب مقدرات وموارد سخية توظف مع الأسف في هدر حقوق الإنسان، وقمع أبناء الوطن، ونهب المال العام بالصفقات والعمولات المشبوهة، وتكدس الثروات بخطوط متعرجة غير منطقية في أيدي بطانة مترفة تحتكر كل شيء، وتقبض على كل شيء، وتحرم بقية الشعب من أساسيات الحياة العادلة الحرة الكريمة. لقد أثبتت الثورات الشبابية العربية المتلاحقة أنه لا قوة لشجاع يحارب في ظلام الليل، ولا جدوى ممن يطالب بحقه وحيداً في ميدان شاسع.. أثبتت أن الوطنيين المخلصين الشرفاء الغيورين لا يتملقون سطوة أثرياء فاسدين، ولا يقبِّلون أيادي تجار جشعين، ولا يذلون أنفسهم على ما تكره أمام مسئولين ومتنفذين ظالمين يقطعون الأرزاق، ويتسلطون على البلاد والعباد، ويرون الشعب قطيع أغنام من الخدم والعبيد ينفذون رغباتهم ونزواتهم الملتوية مقابل "بخشيش" أو "شرهة" أو "عطيه" تُرمى لهم كما تُرمى العظام اليابسة للكلاب والقطط والطيور البائسة. إننا أمام عالم عربي بدأ يتشكل بألوان دماء شبابه الزاهية، وبطعم عرق رجاله المر، وبفرحة دموع بناته الصادقة.. عالم يقدم بفخر وعزة دروس الصمود والمقاومة السلمية ويرفض مصطلحات الخنوع، ويرفض الأوهام، والشعارات التي لم تقدم للشباب إلا مزيداً من الجهل والتخلف، والمعاناة، والبطالة، والفساد المستشري.. إننا أمام جيل عربي جديد لا يطيق أبجديات السمع والطاعة العمياء على ما لا يحب ويكره.. ميدانه المفضل حب الوطن، ومعركته الحقيقية الحرية والخلاص من الفساد والفاسدين والديكتاتوريين ومترفي القصور. إن أفضل ما أفرزته الثورات الشبابية العربية أنها أذابت شخوص الوطنيين الزائفين، وأحرقت مصاصي دماء الشعوب، وهزت المستبدين المتغطرسين الذين أفقدوها نعمة السلام والأمن والطمأنينة.. فالأوطان القوية لا تنتظر من أبنائها الصادقين الأوفياء عواطف فارغة، ومشاعر كاذبة، وقصائد وطنية مستهلكة.. بل تريد منهم إنتاجاً وعملاً وإخلاصا وحباً كبيراً وتضحية لكي تصبح في أعلى المراتب الحضارية.. فالصراحة مؤلمة إلى أبعد الحدود لكن مَن يعي؟ ومَن يفهم في العالم العربي الجديد تركيبة معادلة الثروة والثورة؟!