أحد الأصدقاء عسكري، وطبيعة عمله تفرض عليه الاختلاط بالناس ومواجهة الجمهور، من يقابله لا يلبث طويلاً حتى يشعر أن الله لم يأذن للون من ألوان التعامل مع الناس أن يستقر في رأسه، فكثيراً ما كان يبدو جافاً في تعامله عبوساً في محياه، ومن المستغرب أنه من أشد الناس تذمراً واحتجاجاً على الأوضاع من حوله، بل إنه من أكثرهم حديثاً عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، صحيح أن أصحابه القدامى يذكرون أن تغيره كان مفاجئاً، مبررين ذلك بالضغوط التي تواجهه والديون التي تراكمت عليه، ويؤكدون أن من يعرفه جيداً ويتسلل إلى أعماقه سيكتشف أنه إنسان آخر، إنما لسوء حظه أن الناس قد ترسخ في أذهانهم هذا الانطباع عنه من الجزء الظاهر من شخصيته. ذات يوم؛ كانت حالته خلافاً للعادة، وكان الوقت مناسباً للحديث معه عن طريقته في التعامل مع الناس وأسلوبه الفظ. لست أنكر أن هدفي من هذا ليس إصلاحاً خالصاً، وإنما كان محاولة لاستنطاقه عبر إثارته واستفزازه، فقد عودنا أنه يثور عندما يغضب، وما أكثر ما كان يغضب، وما أتفه الأسباب التي من أجلها يغضب، وما أعجب ما كان يقول عندما يغضب، إذ هو يخبرنا عن ممارسات غريبة يسلكها مع الجمهور، منها المضحك، ومنها المبكي، ومنها المضحك والمبكي معاً. لقد كانت طريقتي في الحديث معه مباشرة وصريحة وبعيدة كل البعد عن الدبلوماسية، وتعتمد على عبارات هي في غاية الاستفزاز مثل القول: (أنت لا تصلح لمقابلة الناس)، و(يجب عزلك في غرفة خاصة)، (إنك أول مستبد يتحدث عن الديمقراطية)، (لا تفرق بين الحرية والحلوى)، صمت قليلاً؛ كما لو أن الحديث موجه إلى شخص آخر، ثم نفث دخان سيجارته بعنف ونظر إليه وهو يتصاعد في الهواء؛ وقال: انظروا ما يقول! إنه يطلب مني أن أبتسم للناس، وكأن هذا هو ما ينقصهم، ثم بالله عليكم ماذا تنتظرون من إنسان يقضي النصف الأول من حياته عاطلاً، والنصف الآخر مديوناً، يستدين بعد أسبوع من الرواتب، ولا يملك منزلاً أو له أمل في أن يملك، وكل يوم يقطع مائتي كيلومتر بين المنزل والعمل، وفوق ذلك مقيد لا يُسمح له بالسفر إلا بتصريح، كما لو كانت لديه أسرار عسكرية يُخشى البوح بها، أما الابتسامة فأعدكم أن أتصنعها بشرط أن تقنعوا مدير عام الجوازات بجدواها، هل نسيتم تصريحه الشهير حين قال: (كل الموظفين في جميع القطاعات لا يبتسمون، وأن هناك عوامل خارجية تجبر الموظف على أداء عمله بلا ابتسامة). فهل ساءله أحدٌ عن هذا التصريح؟! أليس من الأولى أن توجهوا هذا الكلام للفريق: سالم البليهد، لا إليَّ أنا؟! بدأ الحوار مع هذا الصديق بممازحة، وانتهى بتساؤلات رسخت في اللاشعور، فيبدو أنه -كأي عسكري آخر- يشعر أن لديه فقراً معنوياً، بالإضافة إلى فقره المادي، ويبدو أيضاً أن فقره المادي ليس يذكر بالنسبة إلى فقره المعنوي، بدليل أنه يكثر من الحديث عن الحرية وحقوق الإنسان في حين يخالف ذلك في الواقع، ولعل ذلك يعود إلى شعوره بالحرمان، فكثيراً ما يبدي العسكريون تذمراً حيال قضية منعهم من السفر، خصوصاً إلى دول الخليج، تلك الدول التي يرتبطون معها بروابط القرابة والعادات، على اعتبار أن قبائلها وأسرها هي امتدادات للقبائل والأسر السعودية، وكثيراً ما يدفعهم هذا القرار إلى التخلي عن واجباتهم ومسؤولياتهم تجاه أقاربهم هناك، ثم إن هذا القرار لئن كان مبرراً في السابق، فليس الإبقاء عليه حالياً إلا من باب الاعتياد على الشيء لا أكثر، خصوصاً مع الإعلان الأخير عن الاتحاد الخليجي، وهو يذكرني بما حصل للجنرال الفرنسي بولانجيه في عام 1918عندما عُين قائداً للجيوش الفرنسية في الحرب العالمية الأولى، فلاحظ وجود جسر يربط بين مبنيين، يقف أمامه جندي لديه أوامر صارمة بألا يسمح لأحد بالدخول، حتى أنه تم منع بولانجيه نفسه من الدخول، ولما سأل عن السبب لم يجبه أحد، غير أنه بعد البحث اتضح أن هذا الجسر طُلي في عام 1839 بدهان جديد، وأصدر وزير الدفاع -آنذاك- سوليت أمراً بإغلاقه حتى إشعار آخر، لكنه توفي فجأة في حين بقيت أوامره تنفذ طوال تلك الفترة!