هل الوطنية عاطفة فطرية؛ بمعنى أن الإنسان بطبيعته يسكن إلى وطنه ويحبه، وبجميع ما تحمله هاتان الكلمتان: السكن والحب؟ تحتاج الإجابة إلى تحرير لهذا المصطلح (الوطنية) الذي اختلطت دلالته عند بعض الناس بدلالات مصطلحات أخرى، وهو اختلاط ناتج -في ظني- عن تحوُّل خطير في مفهوم (الوطن). لم يعد الوطن في العصر الحديث يقتصر على بلدة الإنسان -التي يعيش فيها مع من يقطنها من أقاربه وجيرانه- وما حولها من مظاهر الطبيعة؛ بل أصبح يحتضن أماكن عدّة (مناطق، أقاليم، ولايات، إمارات..) وبلدات (محافظات، مدن، قرى، هجر، مراكز..)، وأقارب وأباعد. وهذا التحول بالتأكيد أثّر -ويؤثّر- في عاطفة الإنسان تجاه الوطن؛ إيجابية أو سلبية. أعود للسؤال: هل الوطنية عاطفة فطرية لدى الإنسان؟ يمكن الإجابة بنعم فيما لو كان الوطن في الحاضر لا يتجاوز المحافظة على أوسع تقدير، وتتأكد الإجابة إلى حدّ كبير حينما تكون المحافظة هي مسقط رأس الإنسان؛ حينها تتعاضد وطنيته بذكريات طفولته وأيام صِباه تلك التي لن تبرح قلب الإنسان وإن كانت مريرة وقاسية، ومن غير البعيد أن تكون الثانية سبباً لوجود الأولى أصلاً؛ فماذا لو وُلد الإنسان ونشأ في غير وطنه؟ ولكن! هل يمكن الإجابة بنعم عندما يكون الوطن (دولة) مترامية الأطراف، ومتعددة القبائل والأجناس؟ أعتقد أن الإجابة الحتمية (لا)؛ إذ لا يمكن أن يحسّ الإنسان فطرياً بالانتماء إلى وطنٍ لا يعرفه؛ وأكرّر لا يمكن أن يحسّ بذلك فطرياً. على ذلك أقول صراحة بأنه من الخطورة أن نراهن على وطنية الشعب لوطنه (الدولة) اعتماداً على وطنيته الفطرية التي لا تتعدى بلدته التي نشأ فيها، فالخلط بين الاثنتين خطير للغاية؛ فليس كل وطنيّ لبلدته -بالفطرة- وطنياً لبلده الكبير. إذن ما العمل؟ العمل يكمن في القناعة التامة بعدم جدوى الوطنية الفطرية -وحدها- في بناء الوطنيِّين بالمفهوم الحديث، ثم السعي الجاد في توطين القلوب؛ أي في صناعة الوطنية من قِبل أصحاب القرارات النافذة سياسياً ودينياً واجتماعياً واقتصادياً.. إلخ. صناعة الوطنية لا تُبنى -فقط- بمقررات ومقالات وحوارات تلفازية، بل تتطلب تكاتفاً وطنياً بكل ما تعنيه الكلمة ليتحقق في المجتمع الأمن -من المخاوف الداخلية والخارجية- والعدل؛ حينها سيفتخر المواطن بانتمائه إلى وطنه، وسيؤمن يقيناً بأن هذا الوطن أكبر من محافظته ومنطقته، ومن نفسه وأسرته وقبيلته وماله، ومقدّمٌ على تلك جميعاً؛ لأنه سكنه وحبه.