فكّرت كثيراً قبل تحديد موضوع مقالي لهذا الأسبوع والأسبوع القادم فوجدت نفسي تتوق إلى وقفة مع التاريخ بحكم التخصص والميول، وكذلك بحكم أهمية ودور هذا العلم العظيم في حياة الأفراد والشعوب ومن هنا تذكرت أيام العرب الخوالي قبل الإسلام بما فيها من عادات جميلة وقيم حميدة اعتادوا عليها، وصارت جزءاً مهماً من حياتهم وعرفاً من أعرافهم لا يستطيعون التخلي عنها أو التنازل عن جزء منها، مثل: إكرامهم للضيف، والإيثار، والحرص على أداء الأمانة، والوفاء بالعهد، ونصرة المظلوم … وغيرها. وكان الآباء يغرسون في نفوس أبنائهم هذه الخصال وهذه القيم وهم صغار ويدربونهم عليها؛ ليكتسبوها وتصبح سلوكاً من سلوكياتهم في الحياة فهي محط فخرهم ورأس مالهم، يعملون بها دون تصنع أو مداهنة، حتى وإن أدى القيام بهذه الخصال إلى هلاك الشخص نفسه أو فقده أشياء كثيرة مهمة في حياته أو فقده ماله؛ لأنهم كانوا يعدون من لا يُقدم على ذلك سُبّةً وعاراً عليه وعلى قومه. والقصص في هذا الشأن كثيرة، ولكن قصة: «كعب بن مامة الإيادي» تختلف عن كثير من القصص، فكعب هذا هو ابن أمير يقال له: مامة بن عمرو بن ثعلبة الإيادي وهو سيد بني إياد، وقد خرج «كعب بن مامة» مع فتيان من بني إياد من منازلهم وأوغلوا المشي في البادية، وكان ذلك في حر الصيف القائظ، فضلّوا الطريق ولم يكن معهم من الماء إلا القليل؛ لأنهم لم يتنبهوا لذلك ، فلما أشرفوا على الهلاك، نزلوا فجمعوا الماء الذي معهم جميعاً ليقتسموه بالسوية فيما بينهم، ولئلا يكون مع أحد ماء أقل من الذي مع الآخر، وبينما هم سائرون يبحثون عن جادتهم الصحيحة لقيهم أعرابي من بني النمر بن قاسط، وكان النُّمريُّ قد اشتد به الظمأ أيضاً، وكان الفتيان قد اتفقوا فيما بينهم على أن يوزعوا شربات الماء فيما بينهم بالتساوي؛ وذلك بوضع الحصا؛ وهو أن تُطرح حصاة في الإناء، ثم يُصب فيه الماء ما يغمر الحصاة، فيشرب كل واحد من الفتية بالتساوي، وكان «كعب بن مامة» ينتظر دوره ليشرب شربة الماء لتعينه على تحمل حرارة الصحراء ولهيبها الشديد، فلما وصل دوره وأراد أن يشرب الماء لاحظ «كعب» الرجل النمريَّ يَحدُّ النظر إليه، فآثره بمائه، وقال للساقي: اسق أخاك النُمري بدلاً عني، فشرب النُمري نصيب كعب من الماء ذلك اليوم، وفي اليوم التالي نزلوا منزلاً آخر وهم هائمون يبحثون عن صواب جادتهم، وتساقوا بقية مائهم على الطريقة السابقة المتفق عليها من قبل، ولما وصل دور «كعب بن مامة» ليشرب ماءه، نظر إليه النُمري كنظره إليه أمس فقال كعب للساقي: اسق أخاك النمري بدلاً عني. ولما طال الأمر على كعب ورفاقه وهم يسيرون في طلب الماء اشتد الظمأ على كعب، وشعر بأن جسمه لم يعد قادراً على إكمال السير، فجعل أصحابه يعللونه بالأمل، ويقولون له: يا كعب، هذا هو الماء قد اقتربنا منه، وسَنرِدُ عليه بعد قليل، إلا أن كعباً بلغ منه الإعياء الشديد ولم يستطع الجواب، وحاولوا استنطاقه فلم يستطيعوا؛ حيث خارت قواه، وهبطت عزيمته من شدة التعب والعطش، وأخذ يلفظ أنفاسه الأخيرة، ولمّا يئس القوم منه، خيّموا عليه بثوب كبير لحمايته من السباع أن تأكله، ولعل الوقت يسعفهم في نجدته وإحضار الماء إليه، إلا أنه لفظ أنفاسه الأخيرة بعد مغادرتهم بقليل ومات «كعب بن مامة» وأصبح بإيثاره هذا مضرباً للأمثال في الجود والكرم. فلما وصل رفاق كعب إلى أبيه على شاطئ «سنداد» أخبروه بما كان منه، وبإيثاره النمري على نفسه بنصيبه من الماء فقال أبوه يرثيه: أوفى على الماء كعبٌ ثم قيل له رِدْ كَعْبُ، إنك ورَّادٌ، فما وردا ما كان أسقى لنا جود على ظمأ خمراً بماء إذا نجودُها بردا من ابن مامة كعبٍ ثم عيَّ به زوُّ المنية إلا حرة وقدا أجل هذا هو العربي في صفاته وأخلاقه ومكارمه وإجلاله لضيفه وإيثاره يقدم صاحب الحاجة على نفسه في المأكل والمشرب ويقضي حاجته، ولعلنا بنشر مثل هذه الأمثال المضيئة نعمل على ترسيخ العادات الجميلة، مثل: الجود والكرم والأمانة والإيثار في نفوس أولادنا حتى يتعودوا على الصفات والعادات الجميلة التي كان يتحلى بها أجدادنا السابقون، الذين ورثوها عن آبائهم وأجدادهم كابراً عن كابر، ومن ثم ورّثوها لأبنائهم وأحفادهم وصارت مضرب المثل في تحليهم بهذه الأخلاق والخصال الحميدة التي هي فخر كل عربي! فهذه الخصال التي تهتم بجوانب إنسانية كبيرة تعلموها وطبقوها قبل آلاف السنين وصارت جزءاً من حياتهم ومن يتخلف عنها أو يخالف بني قومه في ذلك فإنه يُطرد من القبيلة ويُذم ويصبح منبوذاً من كل أبناء القبيلة؛ لأنه أساء إلى كل أبناء قبيلته؛ لذلك كان الموت أفضل عندهم من أن توصم القبيلة مثلاً بالبخل أو الجبن وغيرها من الصفات الذميمة؛ فذلك عار ما بعده عار، واليوم نعيش في زمن تتصاعد فيه قيم المدنية والتقنية ومع الأسف هذا التصاعد أثّر في بعض شبابنا من الناحية الأخلاقية والسلوكية بل وصل الأمر إلى أن بعض وسائل الإعلام أحياناً جعلت منه منهجاً لإحلال بعض الممارسات والسلوكيات الاجتماعية الواردة إلينا من خارج موروثنا وديننا محل ما غرسه ورسخه آباؤنا وأجدادنا.