بشكل عام، لدي ثقة في الجهاز الأمني في بلادي مهما بلغت التعقيدات الأمنية، وقناعتي في وطنية ومهنية منسوبيه وجودة إمكاناته تزداد مع مرور الأيام استنادا على أكثر من بينة ودليل، ومقابل هذا فإنني هنا بشكل شخصي ملزم بحكم الأمانة أن أكشف عن تراجع مؤشر الأمل في هيئة مكافحة الفساد وحماية النزاهة. تقدير هذا التراجع يخصني ويؤسفني وفي ذات الوقت يحز في نفسي، غير أن الاعتراف به مفروض في إطار المصارحة وما يلزم لاستثارة الهمم، والتحفيز للمضي قدما في تطهير جسم الوطن من العوالق المضادة لسيادة المصلحة العامة. قد يكون لدي من الخبث ما أحاول به دفع الهيئة لشم وتتبع أثر القضية التي سأتناولها في هذا المقال بدءا من الخطوة الأولى، وقد تكون لي مآرب أخرى (الأعمال بالنيات). المهم أنني لا أجد في سياق ما تمت الإشارة إليه بدءا من تقديم جزيل الشكر المفروض والامتنان الواجب لمنسوبي (المباحث الإدارية في منطقة نجران) على جهودهم المثمرة في ضبط واحدة من أدق عمليات استهداف المال العام تحت غطاء التنمية وحجة خدمة المواطنين وتسهيل أمورهم. المسوغات التي يمكن أن يندرج تحتها ويظل بظلها حال غياب أخلاقيات المهنة كثير من الأعمال المحققة للمنافع الخاصة دون إثارة الشبهات. ولأن الشيء بالشيء يذكر، إليكم هذا الخبر الموثق في بعض الصحف الصادرة يوم الإثنين الموافق 12 من شوال لهذا العام. في خلاصة الخبر المفرح المحزن «أن المباحث الإدارية في نجران رفعت تقريرا مفصلا إلى سمو أمير المنطقة بينت فيه ملاحظاتها على برمجة مشروع طريق بتكلفة باهظة في منطقة قليلة المنازل، ومن الحقائق التي تضمنها الخبر أن المشروع كبير وتكلفة تنفيذه تتجاوز ستين مليون ريال ومنافعه مقيدة لا تتعدى خدمة خمسة منازل أو أقل». أمير منطقة نجران (الأمير مشعل بن عبدالله) بعد التقصي وثبوت ضعف جدوى إقامة المشروع في هيئته السابقة، تصرف بذكاء وهدوء وسحب اعتمادات المشروع ذاته بشكل نظامي عن طريق القنوات الرسمية المرجعية -وزارة المالية ووزارة النقل- إلى منطقة الاحتياج الفعلي وأصدر توجيهاته للجهات المعنية بالعمل على تفكيك الملابسات. لا شك أن كل عاقل يقف في مواجهة الإخلال بمعايير سجل الأولويات التنموية، ولا ريب أن كل مخلص لوطنه أيا كان موقعه يقف على الدوام ضد كسر منطق عدالة توزيع المشاريع بأدوات العبث واستغلال صلاحيات الوظيفة العامة لتنفيذ الأهواء، وجر المنافع على أسس رسمية. ومع عدم الإخلال بحق المواطنين، كثر عددهم أو قل في أي مشاريع تخدمهم وتحقق مصالحهم في أي مكان وزمان، تتشابك الأسئلة وتتكاثر علامات الاستفهام، وتتزاحم الظنون على امتداد هذا المشروع الكبير والميزانية الضخمة المخصصة لتنفيذه والغاية المستترة وراء رسم عرضه وطوله في مكان لا يتحمله، هذه المجازفة التي أرى أنها (استغلت الوقت المناسب للقيام بالعمل غير المناسب في المكان الخطأ) لا يمكن أن تأتي وليدة صدفة ومن غير المعقول أن يعبر ملف بهذا الحجم كل مناطق المراجعة والتدقيق في وزارة النقل وفرعها في نجران ب «البركة»، لا بد أن خلفه قوة تحركه باتجاه الممرات الضيقة، ولهذا وبناء عليه، فإنه من الواجب على وزارة النقل أن تُطهر نفسها وتتجه إلى منصة الرأي العام وتقلب صفحات الملف بشفافية انطلاقا من تحديد الكوادر الوظيفية المعنية بشؤونه وتحديد مسؤولية كل موظف وفقا للمراحل الإجرائية حتى المحطة الأخيرة، واتخاذ ما يلزم نظاما، والإخبار به، عملا بمقتضى الأمانة الوظيفية، واحتراما للرأي العام، وفي ذلك ما يخدم الجهات المعنية بتقويم الاعوجاج، ما لم يكن لديها -أي الوزارة- ما يريبها ويعيبها، وثبوت العلة مرهون بالصمت. في هذه المسألة تحديدا لا مكان لتطبيق المقولة السائدة (إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب) واقع الأمر يفرض الإحلال لتكون الجملة التي تستجدينا لمصافحة الحقائق (الساكت عن الحق شيطان أخرس)، هي البديل والخيار الوحيد، المسؤول الكبير قبل الصغير يجب أن يقول الحقيقة ويشرح الموقف. لا مجال للسير نحو التهدئة بعد انكشاف المستور، حق الدفاع مشروع للجميع والخاتمة في بطن السؤال التالي: هل في القوم من يجرؤ على الكلام؟.