«حركة النهضة لن تقبل أبدا وإلى الأبد حل الحكومة قبل بدء الحوار»، هذا ما أكده وزير الصحة السيد عبد اللطيف المكي، الذي تعتبره المعارضة في تونس « أحد أبرز صقور النهضة المقربين جدا من رئيسها السيد راشد الغنوشي «. لكن ما هي دلالة هذا التصريح وخلفيته؟ وما هي بالخصوص تداعياته على مستقبل العلاقة بين الحزب الحاكم وخصومه في هذه اللحظة الحاسمة من تاريخ البلاد؟ . بعد شهر من انطلاق ما سمي ب «اعتصام الرحيل « الذي نظمته ولا تزال مختلف أطراف المعارضة، إلى جانب كبرى منظمات المجتمع المدني، شعر الجميع بالحاجة الملحة لفض هذه المعركة السياسية والجلوس على مائدة الحوار الوطني. في هذا السياق نشطت المبادرات الصادرة من جهات متعددة، وفي مقدمتها الاتحاد العام التونسي للشغل مدعوما لأول مرة باتحاد الصناعة والتجارة الذي يضم رجال الأعمال، وكذلك عمادة المحامين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان. هذه المنظمات الكبرى والعريقة، التي تعتبر من أبرز الأطراف الممثلة للمجتمع المدني، باستثاء منظمة رجال الأعمال، اتفقت حول عدد من المطالب ومن أهمها: الاحتفاظ بالمجلس الوطني التأسيسي الذي تدعو بعض فصائل المعارضة إلى حله، وثانيا استبدال الحكومة الراهنة التي يقودها السيد علي العريض القيادي بحركة النهضة، وتعويضها بحكومة كفاءات تقودها شخصية مستقلة. وهنا يكمن مربط الفرس. لقد استخفت حركة النهضة بخصومها، وقللت من حجم منافسيها، لكن الأحداث المتتالية كشفت عن وجود جزء هام من الرأي العام لم يعد مقتنعا بقيادة النهضة لما تبقى من المسار الانتقالي رغم نجاحها في انتخابات المجلس التأسيسي. وأن هناك مخاوف حقيقية من أن تدار العملية الانتخابية المقبلة في أجواء سلبية قد تؤثر على النتائج وتفتح المجال أمام التشكيك في مصداقيتها، وهو أمر إن حصل فإنه سينسف المسار برمته. بناء على ذلك، حصل نقاش طويل داخل حركة النهضة، وأفضى إلى أن يعلن راشد الغنوشي بعد جلسته الأخيرة بالأمين العام للاتحاد الشغل أن الحركة مستعدة لقبول مبادرة الاتحاد، وأن تدعو إلى إطلاق الحوار الوطني مع المعارضة لمناقشة التفاصيل. هذا التصريح رحبت به في البداية مختلف الأطراف، لكن بعد ذلك صدرت تصريحات من قبل مسؤولين في حركة النهضة اتخذوا مواقف مختلفة دفعت بخصومهم إلى التشكيك في مصداقيتهم، واعتبروا أن النهضة تعمل على ربح الوقت، وتسعى إلى المناورة. وهكذا عادت الكرة من جديد إلى المربع الأول. تكمن العقد الآن في كيفية إطلاق هذا الحوار. الأحزاب المعتصمة في باردو ربطت مشاركتها بإعلان حكومة العريض عن استقالتها، في حين تؤكد النهضة رفضها أيَّ حوار مشروط، وتعتبر أن مضمون الحوار سيتبلور خلال المفاوضات وليس قبلها. وهنا عاد الجميع إلى استعمال ورقات الضغط التي بأيديهم بهدف تحسين شروط التفاوض لصالحهم. المشكلة الحقيقية التي تقف وراء تصلب الطرفين هي انعدام الثقة بينهما. فكل يرى في الآخر خصما غير صادق، يسعى للهيمنة، ويريد أن يخرج من هذه المعركة رابحا دون تنازلات حقيقية. ويتأكد ذلك إذا عدنا إلى تاريخ معظم المتخاصمين الحاليين. إن أغلبهم كوادر سابقة بالحركة الطلابية التونسية في أواخر الثمانينات، وهم ينقسمون أيديولوجيا بين إسلاميين ويساريين. وهم اليوم، بعد أن انتقلوا من المعارضة إلى السلطة، يستمرون في إدارة معركتهم الحادة القائمة على الإقصاء المتبادل، دون أن يدركوا أن الشعب التونسي غير مستعد كي يصبر طويلا حتى يحسم الأمر لصالح هذا الطرف أو ذاك. يتأكد ذلك من خلال التهم المتبادلة بين المعسكرين. فاليساريون يصفون خصومهم بالقوى الظلامية التي لا يمكن التعايش معها، التي يجب إبعادها عن أجهزة الدولة. وفي المقابل اعتبر عبد اللطيف المكي أن المعركة الحالية تدور ضد من وصفهم ب « السلفية الماركسية «. وفصل ذلك في قوله « هناك سلفية ماركسية أو شيوعية ممثلة في الطرف الذي مازال إلى اليوم يعتقد في الديمقراطية الشعبية وليس الديمقراطية الليبرالية «. هكذا يتأكد أنه ما لم يتخلص السياسيون الفاعلون حاليا في تونس من أوهام الصراعات الأيديولوجية، فإن المستقبل سيبقى محفوفا بالمخاطر، وبدل أن تكون السياسة هي فن الممكن والمتاح بناء على قراءة عميقة للواقع والتحديات، تصبح معركة وجود، تقودها فرضيات نظرية وحسابات ضيقة، وبدل أن تدفع نحو بناء أوضاع أفضل يحصل العكس، وتكون عواقبها وخيمة على أصحابها وعلى مستقبل البلاد.