بعد 9/11 والهجوم الأمريكي على العراق وأفغانستان، برَّر كثير من الكتاب والمثقفين هذا الهجوم بحجة أنه حرب وقائية ضد انتشار التطرف في المنطقة، واحتج هؤلاء بأن أمريكا والغرب عموماً ليس في معركة نفوذ في المنطقة بقدر ما هم فيه من حرب ضد الإرهاب. والدليل على ذلك أن ماليزيا (الدولة المسلمة) استطاعت النهوض والتقدم دون تدخل أمريكي لإعاقة مسيرتها النهضوية. وهذا بحد ذاته كفيل بدحض هذه الفرضية المشبعة بالنظرية المؤامراتية! واستمرت هذه الفئة من المثقفين تمارس الردح والسخرية ضد كل تيار يفسر الصراع الدائر على أنه مؤامرة ضد الأمة. وبعد ثورة الجماهير العربية في الجمهوريات العربية جراء عقود من التنكيل والقمع والفساد والاستبداد الذي مارسه اليسار العربي في هذه الجمهوريات، وقف هؤلاء المثقفون أمام هذه الموجة الثورية موقف الدهشة! لاعتقادهم أن المجتمع العربي لا يستطيع محاكاة المجتمعات الأوروبية في ثورته على الاستبداد، وبالطبع كانت هذه الدهشة نتاج نظرة دونية للمجتمع العربي المقهور. وبعد أن غرق اليسار العربي وخلفيته العلمانية في بحر الفساد والاستبداد تحت شعارات واهية كالاشتراكية والحرية والتقدمية من الطبيعي أن تترسخ صورته السلبية في الوعي الجمعي العربي، لذا بحث المواطن البسيط عن بديل سياسي آخر يحقق له العيش الكريم والحرية والسيادة المنشودة للأمة. فكان هذا البديل المطروح هو المعارض الأزلي للعلمانية واليسار بشكل عام، ألا وهو التيار الإسلامي، ولم يكن بالطبع الإسلامي السلفي بشكله التقليدي، بل الإسلامي المؤمن بالدولة الحديثة وأدواتها وآلياتها المعروفة. حقيقةً لم يكن للتيار الإسلامي الديمقراطي رصيد في تجربة الحكم، أو نجاحات على مستوى الإدارة العامة تؤهله لكسب ثقة المواطن العربي البسيط. فكل ما كان لديه هو أنه مجرد بديل للمستبد العلماني، يحمل في أدبياته شيئاً من الآمال والتطلعات التي ينشدها المواطن العربي البسيط. فكانت هذه المعطيات المحدودة كفيلة باكتساحه صناديق الاقتراع العامة! هنا توقفت تلك الفئة من المثقفين التي ظلت عقوداً تتغنى بثورة الإصلاح الديني، وبالثورة الفرنسية، واقتحام سجن الباستيل…، ووقعت في فخ نظرية المؤامرة التي كانت في السابق تنتقد كل من يلجأ إليها لتفسير الواقع والتاريخ، فبعد أن وصل الإسلاميون لسدة الحكم نكص هؤلاء على أعقابهم وعطلوا مناهجهم العقلية ولجأوا لنظرية المؤامرة، وصرَّحوا جازمين بأن ثورات الجماهير في الدول الجمهورية العربية ما هي إلا مؤامرة أمريكية «إخوانية» برعاية صهيونية لتمزيق العالم العربي! حقيقةً إن من تابع طرح هذه الفئة من المثقفين منذ عقد وإلى الآن يشعر بشيء من الشفقة إزاءها، فبعد أن شنَّعت على الإسلاميين بعدم عقلانيتهم واستنادهم للمؤامرة والخرافة في تفسير الواقع ها هي اليوم تسير في نفس الطريق وفي ذات المنوال. بقي أن نتساءل: لماذا تخلى هؤلاء عن عقلانيتهم وكفروا بالثورة والثوار واتبعوا المنهج الذي كانوا يسخرون منه في السابق؟! فبالنظر لطروحاتهم الهزيلة طيلة هذه السنوات أستطيع أن أخرج بتصور متواضع استناداً إلى تلك المعطيات التي حوتها طروحاتهم الهزيلة، فأولاً هذه الفئة المثقفة نسخة مطابقة من الطليعة المثقفة في بداية القرن الماضي، التي لا ترى حرجاً في الهيمنة الأجنبية على المنطقة، فيشتركون معها في النظرة الدونية للفرد العربي، والاستلاب الثقافي والفكري، والانبهار بالنموذج الغربي والرجل الأبيض، وفي الخواء الفكري وفقر الإنتاج الفكري، وفي مماهاة السلطة! ولا أكون متجنِّياً عندما أجزم تماماً بأن كل من فسَّر الثورات العربية على أنها مؤامرة وانحاز للخرافة على حساب العقلانية أنه يتصف بهذه الصفات، ولاسيما الأخيرة منها. والمؤلم والمحبط أن هذه الفئة التي تتشدَّق بالديمقراطية والحرية والإيمان بالتعددية فشلت فشلاً ذريعاً عندما أصبحت على المحك، فأظهرت وجهها المتوحش اللاإنساني وانحازت ضد حرية الشعب العربي المقهور. فكما قال أحد المفكرين «نخضع لاختبار التسامح عندما نكون ضمن الأغلبية، ونخضع لاختبار الشجاعة عندما نكون ضمن الأقلية»، فهؤلاء لم يكونوا متسامحين عندما كانوا مع الأغلبية وفي كنف السلطة، إذ أنهم مارسوا التأليب والتحريض ضد خصومهم، ولم يكونوا أيضاً على قدر من الشجاعة عندما أصبح المثقفون المنحازون للشعوب قلة. هذا النموذج من المثقفين تخلى عن دوره وعن مسؤوليته التاريخية في إيضاح الحقيقة وتعرية الممارسات التضليلية وتزييف الوعي، مقابل الغايات الشخصية والرغبات الضيقة ومحاباة السلطة. حقيقةً إن الفرد العربي البسيط متسامح جداً في هذا الجانب، فهو لا يريد بالضرورة من المثقف أن يتحول إلى مناضل «جيفاري» ترفعه الجماهير على أكتافها ويتحدى السلطات ويهتف ضدها بالشعارات، ولا معتكف في برجه العاجي مترفعاً عن آمال وتطلعات الجماهير، أو متملق في كنف السلطة! فكل ما يريده الفرد هو ألا يتخلى المثقف عن عقلانيته ويستسلم للخرافة في الوقت الذي يتعارض الموقف العقلاني مع أهوائه ومصالحه ورغباته الضيقة!