يعتقد بعض المتفذلكين أن العلاجات الأمنية للأزمات السياسية والمعيشية هي الطريق لحل الأزمات باعتبار أن من ينادي بالعدالة الاجتماعية والمواطنة المتساوية ليس إلا مهووسا أو مدسوسا أو حتى طابورا خامسا. لكن التجارب القديمة والحديثة علمتنا حقائق لا تحجب بغربال مفادها أن المصاب بوجع مزمن في رأسه لا تجبر ساقه كي يشفى، بل يتم معاينة موطن الألم والوجع وتشخيصهما لكي يعطى العلاج اللازم. وكل من مارس عمليات ربط الأرجل والأيدي لم تنفع معه حقنة التخدير المؤقتة التي سرعان ما تفقد سحرها الأولي لتتحول إلى كرة ثلج تهوي من أعلى عليين وتأتي على الأخضر واليابس في برهة عين. في أغلب البلدان العربية تجري معالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية بحلول أمنية، حيث يتم رفع الشعار الشهير منذ الخمسينيات: لا صوت يعلو على صوت المعركة. والمعركة هنا أمنية إعلامية بامتياز، إذ يتم تجهيز الساحة المحلية ببعض الأمصال الضرورية لانطلاق الحملات الإعلامية الفالتة من عقالها. فترجم المهنية والمصداقية والبحث عن الحقيقة، وتتصدر المانشيتات كل ما هو غرائزي مفتت للنسيج المجتمعي ومنفر لأي عقل لديه الحد الأدنى من القياس الموضوعي للحدث- المانشيت في الصحافة أو الخبر الأول على شاشة التلفاز. ولأن الحل الأمني تبخر منه فعل السحر منذ عدة سنوات، فلا بأس من إشراك فئات في حفلة الزار التي عادة ما تتم على خطى ممنهجة ومدروسة تلتحم فيها الآراء وتتطابق حد الالتصاق، لتصدر في اليوم التالي معبرة عن «الإرادة الشعبية» التي نسيها الناس ولم يعودوا يثقون بمفرداتها السمجة التي تذكرهم بمصيبة أو مصائب قادمة، ليس تبخر حلول الأزمات المعيشية إلا واحدا منها. هكذا تقابل أغلب النظم العربية الأزمات المستفحلة في بلدانها، تتحول خلاله الدولة ومؤسساتها إلى أداة طيّعة أمام الإجراءات الأمنية المتخذة ضد من يطالب بلقمة عيش كريمة مغمسة بالعرق والتعب وليس بالدم المسفوك على بوابات العواصم والمدن المنفلتة من القبضة الأمنية المطلوبة لإشاعة الاستقرار الاجتماعي والسلم الأهلي!! عندما يريد المرء معرفة الأداء الحكومي خصوصا في جانبه الاقتصادي يتوجه إلى أقرب سؤال: ما نسبة البطالة؟ وفي الوطن العربي الذي يخلو من مراكز البحث والإحصاء المستقلة، تغيب الأرقام والنسب الحقيقية عن أغلب البلدان، أو أن النظام لا يفصح عنها خوفا على الاستقرار الاجتماعي. وفي هذا السياق تقدر منظمة العمل العربية نسبة البطالة في الوطن العربي بنحو 14% حسب المعلومات والأرقام المتوفرة التي لا تعبر بالضرورة عن واقع الحال، حسب مدير عام المنظمة أحمد لقمان، الذي أكد أن التقديرات تفوق بكثير الأرقام الرسمية، لكنه يؤكد أن الأرقام المتحفظة تشير إلى وجود 20 مليون عربي عاطل عن العمل، من المتوقع أن يزيد هذا الرقم في العام المقبل لتصل نسبة البطالة إلى 17%. بيد أن بعض الأوساط تقدرها ما بين 15-20 %، مقابل 6% عالميا، وعليه فإن العدد يزداد إلى 25 مليون عاطل عربي عن العمل ويدخل سنويا نحو 3.4 مليون. وفي ظل هذا التردي في الأداء الاقتصادي وغياب الاستراتيجيات فإن من المتوقع أن يصل عدد العاطلين في العام 2025 إلى نحو 80 مليون عاطل عربي عن العمل، ولمعالجة هذه الأزمة فقط فإن المنطقة العربية بحاجة إلى 70 مليار دولار لرفع مستوى النمو الاقتصادي الذي يوفر فرص عمل جديدة. وفي ظل التدهور في مستوى البطالة، يقفز السؤال التالي: ماذا عن الفقر؟ تشير بعض الإحصائيات إلى أن نحو 40 مليون عربي يعانون من نقص التغذية وأن نحو 100 مليون عربي يعيشون تحت خط الفقر. وترجع أسباب تزايد معدلات الفقر المفزعة إلى الخلل الكبير وفشل الخطط التنموية والتوزيع غير العادل للثروات واستفحال الفساد الإداري والمالي، فضلا عن العوامل الخارجية التي منها الأزمات الاقتصادية والسياسية التي يواجهها العالم والمنطقة العربية. أما أزمة الإسكان فحدث ولا حرج، حيث إن أغلب الشعوب العربية غير قادرة على امتلاك سكنا يَأويها، ولعل ذلك من أسباب شيوع العشوائيات خصوصا في المدن الكبرى بسبب غياب التنمية المستدامة، فضلا عن التنمية غير المتوازنة وغير العادلة بالنسبة للمناطق والتوزيع الديموجرافي. إذا كان التعريف العام للاستقرار الاجتماعي والسلم الأهلي مرتبطا ارتباطا طرديا بمعدلات النمو والعدالة الاجتماعية باعتبارهما من المفاهيم الضرورية لتحقيق تنمية مستدامة حقيقية تشمل كل السكان، فإن أغلب البلدان العربية تعاني من عدم الاستقرار، ذلك أن فشل الاستراتيجيات، إن وجدت، كفيل باهتزاز المجتمعات التي تغيب عنها عناصر الاستقرار الفعلية مثل وجود مؤسسات حقيقية للمجتمع المدني التي تعبر عن الدولة المدنية، وتراجع المؤشرات الرئيسة للتنمية في المجتمع مثل التعليم والصحة والمرافق العامة، فضلا عن مستويات الأجور وظروف العمل وشروطه والمسكن التي عادة ما تذكر في الدساتير العربية بأنها من واجبات الدولة ومن حق المواطن، لكنها تتحول مع الفشل المتزايد إلى حبر على ورق ولا يمكن للمواطن العادي المطالبة بحقوقه الدستورية هذه. لم نتحدث عن الحريات العامة والديمقراطية التي أصبحت سمة رئيسة من سمات القرن الواحد والعشرين. فهذه قد تقود إلى ما لا يحمد عقباه بسبب تشنج الأجهزة وعدم قدرتها على النظر إلى أبعد مما هو راهن أمني قادر على قيادة الدولة إلى بر الأمان حسب المفهوم الأمني، إلا أنه يقود إلى كوارث نجدها في عديد من البلدان العربية التي لم تلتفت إلى العناصر الرئيسة لتأسيس تماسك الدولة الحديثة خصوصا التماسك الداخلي الذي بدأت تنهشه الخلافات بعد أن بدأت عملية الهروب الكبير من الدولة إلى الطائفة والمذهب، الأمر الذي قاد بدوره إلى حالة التفتت وعدم القبول بالآخر الذي يعيش في نفس البيئة، بسبب اختلافه المذهبي أو الطائفي والإثني كذلك. حتى اللحظة، لا يبدو أن النظم قادرة على استنهاض الحالة المأزومة، فتلجأ للحلول الترقيعية وفي مقدمها المعالجات الأمنية للأزمات الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية. وهو الأمر الذي يفسر تراجع التنمية المستدامة ويؤسس قواعد للعنف الذي يعزز تعمقه فقدان الأمن لتضيع التنمية الإنسانية الشاملة بين هذه المتناقضات. الجلي في الأمر أن البيئات العربية طاردة وغير مؤهلة لإحداث عملية الاستقرار الاجتماعي والسلم الأهلي بسبب الفشل و عدم وجود إدراك حقيقي بضرورة تنمية المجتمعات العربية، من جهة، وقناعتها بأن الدولة الأمنية هي الحل من جهة أخرى، في الوقت الذي تتراكم فيه الأزمات الاقتصادية والسياسية والمعيشية لتشكل كرة الثلج التي سحقت مجتمعات وبخرت دولاً وحولتها إلى أراض محروقة لا يصلح العيش فيها.