تقدم بيوتات الخبرة المالية الإقليمية والدولية صورة وردية لاقتصاديات دول مجلس التعاون الخليجي بتسليط الضوء على أرقام فلكية حققتها هذه الاقتصاديات في الموازين التجارية وفي الناتج المحلي الإجمالي وبالفوائض في الموازنات العامة. هذه الصورة مستندة على أسعار النفط في السوق العالمي الذي يتوقع أن تحوم حول متوسط قدره 96 دولارا للبرميل للعام الجاري حسب توقعات بعض المؤسسات الاقتصادية، فيما قدره بنك الكويت الوطني في تقرير له مطلع الشهر الجاري بأن يصل متوسط سعر النفط 115 دولارا للبرميل، وستحوم الفوائض في الموازنات العامة لتصل إلى أكثر من 163 مليار دولار، حسب تقديرات الأمانة لاتحاد الغرف التجارية بدول مجلس التعاون، الذي لفت إلى أن الفوائض في الحسابات الجارية بلغت 279 مليار دولار في العام 2011 مقابل 163 مليار دولار في العام 2010. هذا الوضع زاد من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تراوحت مابين 22-24 بالمئة لتصل إلى 1.36 تريليون دولار في العام 2011، حصة المملكة العربية السعودية منها بلغت 560 مليار دولار، تليها الإمارات ب 358 مليار دولار، فقطر 173 مليارا تليها الكويت 171 مليار دولار وعمان 67 مليار دولار وأخيراً البحرين التي بلغ ناتجها المحلي الإجمالي 26 مليار دولار. وفي مجال الاحتياطات النقدية فقد بلغت رقما قياسيا ببلوغها 650 مليار دولار العام الماضي مقابل 544 في 2010. قادت البحبوحة المالية وعدم وصول عدوى الأزمة المالية العالمية لدول المنطقة نظرا لاعتماد اقتصادياتها بشكل رئيسي على عائدات النفط، إلى زيادة الإنفاق الحكومي الذي تركز على المشروعات النفطية وبعض البنى التحتية التي تحتاج أغلبها إلى تحديث يواكب المتطلبات الراهنة، حيث تنتج المنطقة أكثر من 17 مليون برميل يومياً. أسعار النفط وحجم الإنتاج سيزيدان من الفائض التجاري ليصل إلى نحو 500 مليار دولار. رغم هذه الفوائض إلا أن بعض دول المجلس ستعاني من عجز نظراً إلى أن نقطة التعادل في الموازنات العامة ليست في مستوى واحد، بل تختلف من دولة إلى أخرى وتتراوح ما بين 72 دولارا إلى 115 دولارا للبرميل. كما أن خطر البطالة بين أبناء دول المجلس أخذت في التأصل بما ينذر بخضة للواقع الاجتماعي وهزه بطريقة لم تتعود عليها المنطقة، حيث من المتوقع أن يقف في طابور البطالة بدول المجلس ما بين مليونين إلى ثلاثة ملايين عاطل خليجي في منطقة يشكل الوافدون أغلبية في معظم دولها، وتعاني من تضخم كبير في هذه العمالة نظرا لاعتماد سياسة تقوم على العمالة الرخيصة غير المتعلمة وغير المدربة في غالبيتها الساحقة. هذه الفوائض لاشك أنها قادرة على حل الأزمات المتناسلة في أغلب دول المجلس بدءا من أزمة الإسكان وانتهاء بأزمة الطرق التي لاتزال تشكل تحديا كبيرا بسبب ما تفقده الدول من أبنائها، مرورا بالجور المتدنية في بعضها قياسا إلى مستوى المعيشة، فضلا عن أزمة التعليم والصحة. هل لأن الاستراتيجيات غائبة؟ أم أن النمو السكاني في المنطقة بلغ أوجه نظرا للتزايد الكبير في تدفق العمالة الوافدة يقابلها عدم القدرة على استيعاب الخدمات لمجتمعات تعد نسبة الزيادة السكانية فيها غير مسبوقة ولايضاهيها أحد فيها؟ ليس هناك أوهام بحل الأزمات والإشكاليات التي تؤثر سلبا على الاستقرار الاجتماعي بعصا سحرية، لكن التخطيط الاستراتيجي يمكن له أن يضع حلولا ناجعة تقوم على أنه لا استقرار في ظل تناسل الأزمات المعيشية والاجتماعية ووضع المجتمعات الخليجية على سكة التنمية المستدامة القادرة على مواجهة وتجنب كثير من الخضات التي يعاني منها حاليا ائتلاف دول كما هو حال الاتحاد الأوروبي راهنا. فأزمة الديون في اليونان وصلت إلى إسبانيا وإيطاليا، وبدأ التفكير الجدي في ألمانيا لإعادة النظر في واقع الاتحاد. ألمانيا التي تستميت لزيادة النمو لديها عن واحد بالمئة القابع اقتصادها فيها حاليا. لذلك ليس غريبا أن يفصح وزيرا المال والاقتصاد الألمانيين عن رغبتهما في إجراء استفتاء شعبي في دول الاتحاد الأوروبي على موضوع التنازل عن جزء من السيادة الوطنية لصالح الاتحاد وخصوصا فيما يتعلق بالسياسات المالية. تفعل ذلك ألمانيا لأنها تشكل القيادة الأساسية في الاتحاد الأوروبي الذي تنذره التقارير والتحليلات الاقتصادية والمالية باقترابه من دائرة الركود الاقتصادي. صحيح أن دول التعاون ليست الاتحاد الأوروبي ولايمكن أن تكون، فالمعركة التي تخوضها اليونان اليوم هي من أجل عدم إفلاس الدولة وتمارس سياسات تقشفية قاسية بما فيها تخفيض الأجور والرواتب، وهذا وضع لا يقارن بدول المجلس، لكن الفرص لا تأتي في كل الأوقات، ولا تتوفر السيولة اللازمة لإعادة هيكلة الاقتصاد وحل الأزمات. وحيث إن الأوضاع الراهنة في المحيط العربي تعاني من اضطرابات غير معروفة النهاية فإن على دول المجلس التوجه داخليا لشعوبها من أجل تجنب الخضات التي لم تعد مستحيلة الحدوث في أي دولة. فوائض دول التعاون يجب استثمارها داخل دولها قبل أن تتبخر.