مرّ تقرير التنمية البشرية لسنة 2011 مرور الكرام على أغلب الدول العربية، ودون أن يثير تساؤلات جدّية من طراز (هل ما جاء في التقرير حقيقة، أم إنه تجميع لمعلومات صحافية توجت بتحليل عام، ومن ثم خلوصه إلى نتائج مفتوحة على الاحتمالات كافة؟)؛ فالتقرير الذي صدر يوم الثاني من نوفمبر الماضي، قدم صورة سوداوية لواقع الحال في البلدان العربية، مع بعض الاستثناءات الهامشية التي جاءت في ثنايا التقرير، مثل أن «الدول العربية حققت تقدماً خلال الأربعين عاماً الماضية في الدخل والصحة والتعليم، وهي العناصر الثلاثة التي يقيسها دليل التنمية البشرية»، وأن بعضها «أحرز أكبر تقدم في ترتيب دليل التنمية البشرية». بيد أن الجانب الأكبر من التقرير يتحدث عن صعوبات، إن لم نقل عجزاً، تعاني منها البلدان العربية في سبيل تحقيق تنمية متوازنة يمكن لها مسايرة شعار تقرير هذا العام «الاستدامة والإنصاف: مستقبل أفضل للجميع». لعل أكثر ما يقلق المجتمعات العربية هو التنمية التي لاتزال خارجة عن التعريف المهني الصحيح؛ ما جعلها (التنمية) تهيم في حالة من التيه، حتى أضحت تنمية منسية يصعب قياسها وفق معايير علمية واضحة؛ فأفرزت المعطيات تراجعاً حقيقياً على الأرض رغم بعض الأشكال الخارجية التي تصور الوضع ناصع البياض، لتعيش بعض المجتمعات العربية حالة غليان لم تكن مفاجأة للناس العاديين بقدر ما كانت مفاجأة لأصحاب القرار الذين ظلوا غير مصدقين ما يحصل في الشوارع. يقول أحد المفكرين إنه لا يمكن إحداث التنمية المرجوة في ظل خلل واضح يعاني منه النظام السياسي؛ حيث إن طبيعة هذا الأخير تفرز نتائج سلبية على الناس. ووفق هذا المفهوم تعاني البلدان العربية من أزمات تتناسل واحدة من رحم الأخرى، كما هو الحال مع القراءات الخاطئة لنسب النمو الاقتصادي الصماء، التي لا تعكس تنمية حقيقية على الصعيد المجتمعي؛ لذلك أفرزت سياسات النظم جيشاً من العاطلين الشباب يعادل ضعف المعدلات العالمية، في بلدان يشكل الذين هم دون الخامسة والعشرين سنة فيها أكثر من نصف عدد السكان، ما يعني تركهم عرضة للتجاذبات المتعددة الأهواء من جهة، وخسارة كبرى للتنمية وللمجتمع بتعطيل طاقاتهم من جهة أخرى؛ ففي أكبر بلد عربي من حيث عدد السكان، جاءت مصر في المرتبة 113 من أصل 178 بلداً حصدهم التقرير الأممي، الذي فصّل قليلاً ليشير إلى أن نسبة الذين يعانون من الحرمان في مصر تصل إلى أكثر من %40، فيما تصل نسبة الذين يعانون تحت خط الفقر إلى %2، أي نحو 1.8 مليون نسمة في بلد يصل تعداده إلى أكثر من 85 مليون نسمة، فيما تصل نسبة البطالة إلى %25 خلال العام الماضي. ويضيف التقرير بعضاً من الإحصاءات والأرقام المقلقة التي تفيد بأن %60 من فقراء المنطقة العربية يعانون من الشح الشديد في المياه، بينما تستهلك أغلب دول مجلس التعاون الخليجي مياهاً تفوق أضعاف معدلات الاستدامة في هذه الثروة، فيما يبلغ الاستهلاك في الأردن وسورية حد الإجهاد للموارد المائية، التي ركز تقرير هذا العام عليها وعلى التلوث، حيث وجهت اتهامات صريحة للدول الخليجية، بأنها تطلق غاز ثاني أكسيد الكربون بمعدلات زادت من تلوث الأجواء في هذه البلدان؛ بسبب عوادم السيارات أولاً؛ حيث تزداد أعداد المركبات التي تسير في شوارع دول المجلس زيادة مقلقة، بينما لا يزيد أطوال الشوارع بالنسبة ذاتها التي تزيد فيها السيارات؛ ما جعل مشكلة ازدحام السير عنصراً مساعداً على التلوث، إضافة إلى كونه مضيعاً للوقت، وعدم وصول السكان إلى مواقع عملهم في الوقت المناسب، في بلدان لم تلتفت -حتى الوقت الحالي- إلى أهمية التحول صوب وسائل المواصلات العمومية. لقد كشف تقرير التنمية البشرية لهذا العام استمرار الخلل الخطير في عملية التنمية البشرية في الوطن العربي، في وقت تموج فيه المنطقة بتطورات كبرى على الصعيد المجتمعي، الذي لم يعد قادراً على تصدير الأرقام الرسمية الصماء، غير القادرة على إيجاد فرص عمل جديدة للداخلين الجدد في أسواق العمل العربية، كما هي غير قادرة على توفير السكن الملائم لأغلب المواطنين في هذه البلدان، في وقت تعاني منه الأجور من تآكل أدى إلى ضمور الطبقة الوسطى، التي تشكل بيضة القبّان في أي مجتمع، باعتبارها المنظم لإيقاع الاستهلاك المحرك للسوق الداخلية، والضامن لاستقرار المجتمع من الخضات الكبيرة التي تقود إلى المجهول. إن البلدان العربية في حاجة ماسة إلى عملية تحديث واسعة النطاق؛ لكي تتذكر التنمية التي نستها منذ عقود، وأسس ذلك النسيان لأزمات تأصلت، وبدا من الصعب وضع حلول لها دون اجتثاث الأمراض الاقتصادية والاجتماعية التي تضاعفت مع النسيان المتزايد لعملية التنمية الإنسانية الحقيقية. وقد تكون البداية في الإنفاق على تأسيس مراكز البحث والدراسات، التي تشكل الرافعة الحقيقية للمجتمعات المتقدمة، بينما هي مغيبة في البلدان العربية.