بدأت إنسانية الإنسان بالكلام، ودخل المدنية بالزراعة، ودشّن الزمن الصناعي بالنار، ونقش حضوره في صخور الذاكرة بالبناء، كما يقول ول ديورانت في كتابه «قصة الحضارة». وبما أن أهالي منطقة الباحة سُكان قُرى وهجر جبلية، في الغالب، بين تهامة والسراة والبادية، فمن الطبيعي أن يتفاعلوا مع البيئة، ويُحاكون جمالية الطبيعة من حولهم، وينجحون في تجاوز مساحات الثرثرة إلى ساعة صاغت فيها أكفُهم ملحمة بناء عززت الثقة في أنفسهم، ودوّنت إلياذة عمران حققت لهم ولذرياتهم بنية تحتية تغريهم بالبقاء والاستقرار والتخلي عن الرحيل والهجرات المؤرقة. وأمام تحدي التضاريس ووعورتها، كان الناس في الباحة، شأن بقية القُرويين، يبتكرون وسائلهم اللازمة لمواجهة ضرورات الحياة. وبقدر ما يفخر ابن المنطقة بموروث آبائه وأجداده العمراني، بقدر ما يحزن على إهمال بيوت الحجر والطين التي ولدت فيها أجيال ممن هم الآن على قيد الحياة أسارى جدران خرسانية صماء. رمزية العمارة ويرى أستاذ اللسانيات في جامعة الباحة الدكتور جمعان بن عبدالكريم، أن للعمارة لغة شأن كل شيء، موضحاً أن رمزية العمارة يمكن النظر إليها في إطارين كبيرين هما: السيمائية والتداولية الرمزية. ويقول: بالنظر إلى العمارة في منطقة الباحة ينبغي تصنيف العمارة القديمة إلى فئتين، فئة الناس العاديين، وفئة الشيوخ وكبار التجار، واصفاً البناء بأنه امتداد للمكان وللإنسان وللثقافة كونه بناءً صديقاً للبيئة يتخذ البساطة عنواناً له، ويحقق الدفء لساكنيه شتاءً والبرودة صيفاً، لافتاً إلى أن الأبواب كانت تتخذ موقعها في الجدار الشرقي لاستقبال الشمس، ولون البياض والخضرة واللون الطبيعي للأحجار هو النمط، مشيراً إلى أن ما يلفت النظر في البناء القديم استعمال المثلث للتزيين، وهو رمز موغل في القدم، وهذا المثلث ينتشر في السروات الشمالية، ويختفي من بقية المناطق التي تأثرت بالعمارة اليمنية أو الحجازية. ويضيف: أظن أن المثلث رمز سام قديم له علاقة بالجبل الذي يقرب من السماء. طفرة و«صحوة» ويبدي ابن عبدالكريم تحفظه على العمارة الحالية، لافتاً إلى أنها تعبر عن العشوائية وحالة الطفرة، وحالة الصحوة، مشيراً إلى أن البيت كان له مدخل واحد، فأضحى له اثنان، أحدهما للرجال وآخر النساء، وأصبحت الغرف كعلب الإسمنت لا لغة لها إلا الإغلاق ثم الإغلاق، مُتطلّعاً إلى تأسيس أقسام ثقافية في البلديات لتدارك البيئة والعمارة بأقل تكلفة مادية، ولإضفاء روح الإنسان على البناء، مُطالباً بالحفاظ على التراث العمراني كونه عرضة للتلف والتهدم ما يفضي إلى تجاهل منجز وموروث أسلافنا وارتكاب العقوق لتاريخنا. قصة البناء وعن قصة البناء في منطقة الباحة، يقول رئيس بلدية بلجرشي السابق المهندس سعيد الحسيل، إنها تبدأ من اختيار الموقع المناسب لانتقاء الصخور الملائمة للبناء من موضع يُسمى «المُقلّع»، موضحاً أنه موقع يتم فيه «اقتلاع الحجارة بأدوات بدائية ويدوية، منها (العتل) و(الفراس)، لتمر بمرحلة تحجيمها بضربها بالفانوس وتهذيبها بالمطرقة، ثم حملها على الجمال إلى الموقع المُعد للعمران». مرحلة التشييد ويشير الحسيل، وهو صاحب كتاب «الكنوز العمرانية في منطقة الباحة» الذي يعد من أغنى المراجع المعمارية، إلى أن فريق عمل البناء المكون من بانٍ، ومُلقّف، وعامل، يبدأ العمل بعد ذلك لتشييد المبنى، لافتاً إلى أن الباني مهندس بالفطرة والخبرة، وهو مسؤول عن سلامة المبنى واستقامة الحوائط، والملقّف يهذب الحجارة ويسدّ الفراغات بأحجار صغيرة تُسمّى «اللزة»، مبيناً أن المهمة الأولى في التشييد تأسيسية، تقوم على حفر الأرض بعرض متر للوصول للتربة الصلبة المناسبة، للبدء في بناء المدماك (الربض). ويوضح أنه بعد تحديد الارتفاع واكتمال الجدران، وتخليبها بالطين من الداخل، يتم وضع الزافر (المرزح)، ويُثبّت على صخرة مستوية، وعليه يوضع «الجوز» و»البَطَن»، ويتم رصف الخشب والجريد للتسقيف، ويضاف عليه بعض النباتات لتصميت الفراغات ثم يوضع الطين والراتب بسمك ثلاثة سنتيمترات. الزميل الرباعي أثناء زيارته لأحد البيوت الأثرية في الباحة سقف بيت يبدو فيه الزافر والبطن (الشرق)