الإنسان ليس شيطاناً ولا ملاكاً، بل هو إنسان قبل كل شيء يخطئ ويصيب، يذنب ويتوب، ينزل ويرتفع، لا قعر لهبوطه، ولا سماء لارتفاعه، لا حافة لنذالته ولا حدود لكرامته. إذا قيس إلى اللانهاية فهو لا شيء، وإذا قيس إلى العدم فهو كل شيء، فهو معلق بين حافتي العدم واللانهاية، بين طرفي الخير والشر، بين قطبي الشيطان والملاك، هو ترابي زائل، وحقيقة خالدة، وشبح متحرك، وحي ميت على الدوام. في كل لحظة يموت ويحيا، ينهدم ويتجدد، في حالة صيرورة دائمة، وحركة لا تنتهي، يخطفه الموت، وتبقى آثاره تعمل متمسكة بالخلود مستعصية على الفناء، شديد الهشاشة، عظيم القساوة، تسحقه هبة غبار، ولفحة نار، وفيروس تافه، ولكنه يسخر الكهرباء والنار، المغناطيس والبخار، يذيب الحديد، ويحفر الصخر، ينسف الحجر والجلمود، ويفجر قوى الذرة العاتية وهو لا يراها. هو قمة التقوى وحضيض النفايات، هو معتنق المقدس، ومرتكب الحماقات والضلالات، سافك الدم، محيي العدل، فيه تألق الجمال، وعربدة الإجرام، لغز الوجود وسر الكون. يا ترى أين بوصلته الداخلية؟ وكيف يتأتى إصلاحها عند الخلل؟ وصيانتها ضد التفاهات، والروتين القاتل، وملل الحياة، وضغط الأحداث؟ يسبح الإنسان عادة في مشاعره مثل الخوف والحزن والشك والغضب والحياء والشهوة، بين ثلاثة حقول، أو قطاعات ودوائر، كل دائرة تتداخل مع التي جنبها، بحيث أننا لو أردنا أن نرسم هذه الدوائر الثلاث التي يتحرك ضمنها الفرد لقلنا: أنه شيء طبيعي أن يخاف الإنسان أو يحزن بين حين وآخر، وهي الدائرة (الطبيعية) لكل إنسان، ولكنه أيضاً ومن الطبيعي أن يخرج من هذه الدوائر وهي حالة الصحة النفسية. فإذا بدأ المرء في الدخول والبقاء أكثر فأكثر تحت تأثير مشاعر الكره والحقد دخل الدائرة الثانية، وهي ما تعرف في علم النفس بحالة (العصاب Neurosis)، فإذا تزحلق إلى الدائرة الثالثة انتقل إلى حالة (النفاس Psychosis) أو (الذهان) فتحكمت المشاعر السلبية منه وتمكنت. وبذلك يكون قد وقع في حالة ما يعرف عند الناس بالجنون. المجانين الذين يمشون بيننا، وليسوا خلف القضبان كثيرون، كل ما علينا هو التأمل في تصرفات البشر، وتحليلها ومعرفة الدوافع الكامنة خلفها وهل هي متزنة عاقلة أم لا؟ وشهر رمضان هو ذلك التدريب للسمو بالإنسان إلى عالم الصحة النفسية.