غداً هو أول أيام شهر رمضان المبارك. أعاده الله علينا جميعا بالخير والبركات. وفي هذا اليوم وما قبله، وكالمعتاد تصلنا عشرات من رسائل التهنئة على جميع وسائل التقنية. من بينها رسائل من غير المسلمين عرب وأجانب، في صورة تعبر عن الإنسانية التي تجمع العالم تحت كنفها. ومن بين ما يصلني، رسالة «بيير» الفرنسي الأصل الذي أسلم حديثا. لغته العربية تتحسن كل عام. وأذكر عندما رأيته للمرة الأولى، كان يحمل على ظهره حقيبة سوداء بها محتويات الرياضة وقنينة ماء، وضعها على الطاولة ذات نهار وأخرج منها مصحفا صغيرا، وكتابا للأدعية باللغتين الإنجليزية والفرنسية. كثير من أولئك حديثي الإسلام، يرون الدين بعين مختلفة طازجة، تلتقط الرسائل الجميلة المفعمة بيسر الدين وتسامحه وروحانيته، وهي ما يغفل عنها مع الأسف عامتنا. قبل يومين، قرأت خبرا مثيرا للإعجاب، وهو عن قرار القناة الرابعة البريطانية بث أذان الفجر طوال أيام شهر رمضان المبارك، وهي بالمناسبة أول قناة في بريطانيا تفعل ذلك، وحسبما أكد «رالف لي» مدير البرامج الوثائقية في القناة التليفزيونية، الذي قال لمجلة «راديو تايمز» أن الهدف من ذلك تعريف من يربطون الإسلام بالتطرف، ونظرا لكون شهر رمضان يحتل أهمية كبيرة لدى المشاهد، وسوف تبدأ القناة الرابعة في عرض سلسلة من البرامج كجزء من التعريف بشهر رمضان الذي يبدأ الثلاثاء. إن غير المسلمين يمكنهم التعرف على الإسلام، من خلال شعائر رمضان التي تمثل مشقة جسدية من خلال الصوم وضبط السلوك، في الوقت التي تمثل للمسلمين عبادة روحية عظيمة»، ومن أجمل ما ذكر «إن وقت الانتباه قد حان للإحساس بالمشاعر الروحية لدى المسلمين في أنحاء العالم، وتغيير النظرة لما هو أفضل». جدير بالذكر أن المسلمين يشكلون نحو خمسة في المائة من سكان بريطانيا. ربما، في هذا الشأن، يمكنني استعارة أحداث القرنين 16 و17 في أوروبا، تلك التي آلت إليها التجربة الحالية، التي تعيشها الدول العلمانية في العالم. هي «العلمانية» سيئة السمعة والذكر لدى بعض من لا يفهم معناها الحقيقي فيربطها بالكفر والإلحاد. وذلك بعد أن استوعبت هذه الدول الحل بالفصل بين الكنيسة والدولة. رافق ذلك، صعود فكر تنويري، وفلسفة إنسانية، وشخصية مدنية، وتسامح ديني، وانتفاء اقتتال الناس على الهوية والتصنيف، تحت شعار يختصر المسافة «الدين لله والوطن للجميع». كما استقرت الأحوال وعاد السلام إلى المجتمع الواحد في تلك الدول الأوروبية، برغم كل الاختلافات العقدية والدينية والفكرية والمذهبية والعرقية، والقائمة تطول. وذلك بعد كوارث دموية مؤسفة. فألمانيا، على سبيل المثال، التي تنقسم دينيا إلى قسم بروتستانتي وقسم كاثوليكي، لم تكن لتستطيع تجاوز أزمتها وصراعاتها الطائفية المدمرة إلا بعد تطبيق ما قامت به أوروبا بفهم الدين والعقيدة بالصورة العقلانية المطلوبة. فتم لها بذلك التعايش السلمي بين الناس في المجتمع الواحد. ولأن المسلمين المهاجرين والمقيمين في أوروبا هم جزء من ذلك النسيج، نرى كيف ظهر الإسلام وأتباعه وأدواته في الأراضي الأوروبية بتقدير وتفهم جم. هذا الفهم الحديث هو الذي، وللمفارقة، يعاديه المتطرفون فكريا ودينيا عادة، في الوقت الذي تعج فيه تلك الدول بالمساجد والمآذن الإسلامية المزخرفة. لذلك نرى كيف تستمر، مع الأسف، الأحداث الدموية والمعارك الفكرية والمشخصنة بين الناس في العالم العربي والإسلامي. هذا الشهر الذي دخلناه بأيامه الثلاثين، هو الفريضة الإسلامية السنوية التي تجمع العالم الإسلامي أجمع. يستعد الناس في عالمنا العربي باختلاف الأوضاع بين سلم وحرب، وبين ظروف ثورية مرهقة لأيام هذا الشهر. هو الذي يضفي على أرواح الناس جوا من الفرح والسلام الروحي والنفسي والاجتماعي الذي نحتاجه، أو الذي نرجوه. فبجانب هذه العبادة الأثيرة، تظهر الفوانيس والأنوار الملونة، والمشروبات والأطعمة والأهازيج والعادات الرمضانية المختلفة. يأتينا رمضان صيفا هذا العام، وبساعات طوال. وبما أننا ندركه بين شهري يوليو/تموز وأغسطس/آب، أذكر لكم ما قيل عن الشاعر العباسي ابن الرومي الذي أدرك رمضان في نفس الشهر، فوصف معاناته مع الصيام والحر والعطش في بيتين ظريفين: شهر الصيام مباركٌ .. مالم يكن فى شهر آب .. الليل فيه ساعة .. ونهاره يوم الحساب .. خفت العذاب فصمته.. فوقعت فى نفس العذاب. أرجو لكم صياما طيبا مقبولا، ورمضان كريم.