خالد ربيع السيد – كاتب وناقد سينمائي سعودي الفيلم برهان على هاجس العتيبي في اقتناص النوادر واكتشاف الخبايا تفاصيل واقعية مدهشة تقدم للمشاهد وجبة دسمة من العادات والمفارقات بدا واضحاً من خلال الأفلام الثلاثة التي قدمها حتى الآن المخرج السعودي فيصل العتيبي أنه يتبع في أسلوبه الإخراجي «المدرسة التوثيقية الواقعية» التي تهتم بتوثيق الاكتشافات الأنثروبولوجية المتعلقة بالجوانب الطبيعية والحضارية والاجتماعية للإنسان وارتباطه بالمكان. بل وبالبحث عن معلومات تكاد تكون غير شائعة بشكل واسع، ليقدمها إلى المشاهد في أفلام متوسطة الطول. وتجلى ذلك الاتجاه بوضوح منذ فيلمه الأول «عروس الجبال والآثار» الذي أخرجه عام 2006م، ثم في فيلمه «الحصن» عام 2009م، وفيلم «الزواج الكبير» الذي عرضه في مهرجان الخليج السينمائي 2013م. ذلك الاشتغال يُمكن تصنيفه الفني على أنه باحث سينمائي توثيقي، يبحث عن المواضيع النادرة، ثم يدرسها نظرياً، ثم يتوجه بكاميرته إليها، يرصدها ويصورها ويوجِد من واقعيتها قصة مكتشفة جديرة بالمشاهدة والمتعة. حراك إنساني ولا غرابة في أسلوب العتيبي هذا، وهو الذي تمرَّس عليه كثيراً من خلال عديد من البرامج التي قدمها للتليفزيون السعودي، منها برنامج «دول العالم الإسلامي – 30 حلقة»، برنامج «المسلمون في رمضان – 30 حلقة»، وبرنامج «وجوه وأماكن – 30 حلقة»، وبرنامج «حكاية مكان – 26 حلقة»… وغيرها عديد، وهذه الحلقات التليفزيونية يمثل كل منها عملاً فيلمياً قائماً بذاته، مشتغلاً بأسلوب السينما التوثيقية التي يتقصى من خلالها معالم حركة الإنسان في المكان بتأثيرات التاريخ في نطاق منظومته البيئية، ومن ثم يقدم للمشاهد لمحات عن حراك الإنسان، مع إظهار تباينات واختلاف سلوكه ونشاطه والظروف الموضوعية المحددة لأدواره في واقعه. جزر القمر ولعل فيلمه الأخير «الزواج الكبير» خير برهان على هذا الأسلوب والمنهج الفكري / السينمائي، ففيه يبرز هاجس الاقتناص للنوادر واكتشاف الخبايا الذي يشكل اهتمام العتيبي. فبمجرد أن روى له أحد الأصدقاء العائدين من رحلة إعلامية لجزر القمر، لفت انتباهه جمال الطبيعة والتمايز الجغرافي وفرادة سكان تلك الجزر الأربع الواقعة في المحيط الهندي، بالجنوب الشرقي لقارة إفريقيا، شمالي موزنبيق وتنزانيا وجزيرة مدغشقر، من حيث العادات والموروثات الاجتماعية التي تشكل ثقافة شعبها الخليط من الأفارقة السواحليين والعرب الخليجيين والهنود والإندونيسيين. فالزواج الكبير ظاهرة قمرية (نسبة إلى جزر القمر) بامتياز، وطقس تتوارثه الأجيال من هذا الشعب المثير للانتباه في طقوسه وتفاصيل حياته. مكانة اجتماعية ومن بين أفراد هذا الشعب اختار العتيبي الدكتور يحيى محمد إلياس الذي شغل مناصب رسمية رفيعة من بينها وزيراً للتربية والتعليم، والعدل، والدولة للشؤون الخارجية، ومستشاراً لرئيس الجمهورية. وكل هذه المناصب لا يكتمل تأثيرها ما لم يتزوج الدكتور «الزواج الكبير» الذي يجعله يصلي في الصف الأمامي في صلاة الجمعة، ويمنحه الحق في إبداء الرأي في مستجدات أمور القرية، ويجعل له مكانة يجلها الصغير والكبير. زواج العفة يظل الرجل ذا مكانة عامة بين أهله وناسه في هذه الجزر النائية، يتزوج زوجة أولى (زواج العفة) ويمارس حياته الطبيعية ويكد ويجتهد ويجمع المال حتى إذا ما أصبح من ذوي الأملاك أعلن عن نية قيامه بالزواج الكبير، الذي سيضعه في مكانة اجتماعية مرموقة، فالزواج الكبير لا يقدر عليه إلا قلة من الرجال بسبب تكاليفه الباهضة التي يتكبدها الزوج… تقام مراسم الزواج الكبير على مدار أسبوعين، ينفق فيها الزوج على أهل الحي أو القرية التي يقطن فيها، بدءاً من الولائم والمأكولات وحتى كسوة جميع الرجال والنساء والأطفال، وإقامة الحفلات والغناء والرقص وكل مظاهر البهجة، فالزوج الآن بمثابة رجل له مكانة اجتماعية رفيعة، وحظي بعد هذا الزواج باحترام الجميع. إثبات هوية يغوص فيصل العتيبي بكاميرته في سرد هذه التفاصيل الواقعية المدهشة، ويقدم للمشاهد وجبة دسمة من العادات والأعراف الاجتماعية والتفاصيل والمفارقات التي رصدها في صورة فيلمية شيقة ضمن مونتاج متسلسل يجعل من خضم الحدث قصة مرسومة بتفاصيل درامية مشغولة وفق دراسة متأنية، وغير ذلك يمنح الفرصة للمشاهد في إكسابه عمقاً ثقافياً عن نواحٍ عديدة لهذه الجزر، بل يسلط التركيز على النقلة المكانية التي يكتسبها الزواج الكبير بالنسبة للقمريين، فهي بمنزلة خطوة مصيرية نحو تحقيق الذات وإثبات الهوية في مجتمعه.. ويحدث الزواج الكبير، كما يروي الفيلم، من الزوجة الأولى التي تزوجها أول مرة زواج العفة، ويحق له أن يتزوج بأخرى شابة بمعرفة ومشورة الزوجة الأولى. سيناريو التصوير وهنا يرى المشاهد نماذجَ من الزوجات القمريات؛ أولاهن: زكية يوسف، زوجة أولى وتريد أن تستريح من أعباء الزواج. وزليخة عبدالرحمن زوجة ثانية.. والعلاقة بينهما مجبولة على الأخوة والصداقة والمحبة، وفي سرد كل ذلك يعطي العتيبي درساً في المعالجة الإبداعية لحدث واقعي مُعد له سيناريو بفعل تلقائي وفق أحداث طقوسية معروفة مسبقاً، الأمر الذي يحتم السؤال هنا عن السيناريو التتابعي لمسيرة الفيلم، فما الذي ينبغي تصويره، وما الذي لا يصور أو يهمل أثناء عملية المونتاج؟ ولا شك أن كتابة السيناريو أخذت معه مرحلتين، على الأقل: أولاً سيناريو التصوير، الذي يمكن تشبيهه بخارطة مبدئية للرحلة التصويرية، الذي يرسم البحث ويحدد الخطوط العريضة لقصة الفيلم. وسيناريو ما بعد التصوير الذي تكون التفاصيل فيه مفهومة وعامة أو شاملة بالاعتماد على المعلومات المتوفرة عن الحدث، وهي غالباً ما يتم تعديلها وإعادة كتابتها، وتقع ما بين التصوير وعملية المونتاج. ارتجال تلقائي ولكن ما أضاف بُعداً تشويقياً لسرد الفيلم هو أن فيصل العتيبي استعان بمعلق على أحداث الفيلم أو راوٍ له.. هذا المعلق والراوي هو الزوج الكبير ذاته، الدكتور يحيى محمد إلياس، وهو معلق ليس بإرادة درامية وليس تعليقه تعليقاً مكتوباً، إنما جاء تعليقه معتمداً على قريحته وارتجاله التلقائي، الأمر الذي جعل للفيلم نبضاً حقيقياً ومتعة تعلوها دهشة الاكتشاف. ذكر وغناء يستمتع المشاهد بمراسم طقس «الذكر» الذي غالباً ما يكون حفلاً كبيراً قد يصل عدد المحتفلين فيه إلى أكثر من ألفي شخص يجتمعون في ساحة كبيرة ويشرعون في قراءة الذكر القرآن الكريم، وأثناءه يتناولون المرطبات وبعض الحلوى. وكذلك طقس «الجاليكو» الذي يشير إليه الدكتور إلياس بأن الأهالي يجوبون فيه شوارع القرية وهم يغنون ويرقصون، في ملابسهم الجديدة الزاهية التي وُزعت عليهم من قِبل المتزوج، حتى يصلوا إلى ميدان في وسط القرية، فيكملون ليلهم في غناء وسمر، وكما يقول الراوي: قد يكون الجاليكو نسائياً أو رجالياً، أو يكون مختلطاً، بحسب ما يرون، وفي كلتا الحالتين تأخذ الكاميرا موضعها لتسجل الأحداث وتنقلها إلى المشاهد بذات الحميمية التي حدثت فيها.