في الفترة الطويلة التي قضيتها في ألمانيا طالعني أمران استعصيا على التفسير، ولم يحل اللغز عندي إلا آية من سورة النحل، وفّرت لي دراسات علم النفس الإنساني أدوات معرفية لتشريح الآية. كنت ألاحظ المجتمع الألماني يسبح في بحبوحة من رغد العيش والضمانات والأمن الاجتماعي، مع هذا فالإنسان الألماني لا تطل من قسماته مظاهر السعادة، خاصة يوم الأحد بعد الظهر يظهر بمنظر كئيب لاستقبال العمل يوم الإثنين في لغز يستعصي على الحل؟. رسم أبراهام ماسلو من مدرسة علم النفس الإنساني هرماً جميلاً للحاجات الإنسانية يقوم على قاعدة عريضة من حاجات فيزيولوجية خمس: الطعام والشراب والملبس والمسكن والجنس، وتقوم فوقها أربعة طوابق تبدأ من الطابق الثاني بالأمن الاجتماعي ليأتي فوقها تقدير الذات والانتماء ويحلق على قمة الهرم أنف صغير من (الحاجة لتحقيق الذات). فأما توفر الحاجات الفيزيولوجية التي أشار إليها القرآن، «إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأن لا تظمأ فيها ولا تضحى» (تبقى بدون مسكن)، لا تهب الإنسان كل السعادة بدون إضافة (آمنهم من خوف بعد أن أطعمهم من جوع)، مع هذا فآية سورة النحل أضاءت الموضوع بشكل متفرد عندما وضعت ثلاث صفات لأهل القرية (الأمان والرزق والطمأنينة) والكلمة الأخيرة مفتاحية حلت لي إشكالية فهم مفاتيح السعادة الثلاثة فإبراهيم عليه السلام وصل إلى طمأنينة القلب عندما رأى إحياء الموتى وحواريو عيسى عليه السلام اطمأنت قلوبهم بتنزيل المائدة، والمؤمنون تطمئن قلوبهم بذكر الله (ألا بذكر الله تطمئن القلوب). لابد من الرزق، لكن بدون أمن اجتماعي لن يهنأ لفرد شراب أو يستسيغ طعام أو يتمتع بزواج وعشرة، فالاستبداد يستل نور الحياة ويقتل كل بهجة. وفوق هذه القاعدة العريضة والمتينة من (أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) ينبت شعور فردي جديد من تحقيق الذات فيشع بالطمأنينة الروحية فتكسي الوجوه فتعلوها نضرة خاصة. هذا ما ينقص المجتمع الغربي الذي قطع شوطاً واسعاً من تحقيق الرفاهية والديمقراطية ونقل السلطة سلمياً وأمّن الناس على أموالهم وأرواحهم وأعراضهم. أما في مجتمعاتنا فنحن خارج إحداثيات التاريخ والجغرافيا إلى إشعار آخر نعيش على أفكار ميتة وأخرى قاتلة، نعيش كي لا نعيش.