تشكّل الكلمة حياتنا، والحياة كلمة كما يقول الدكتور سلمان العودة في برنامجه الشهير، وكما يؤكد أصحاب التنمية البشرية وتطوير الذات والبرمجة اللغوية العصبية؛ أن الكلمات التي نرددها، والعبارات التي تستوطن عقولنا الباطنة تؤثر كثيرًا في نفسياتنا وأمزجتنا وتصرفاتنا وردود أفعالنا ومسارات حياتنا ومصائرها. والكلمة هنا لا تدل على المفردة فقط، وإنما تنصرف غالبًا إلى الجملة أو العبارة، والعرب يُسمون الكلام القصير أو الطويل كلمة «وكلمة بها كلام قد يُؤم» كما يقول النحوي الكبير ابن مالك صاحب الألفية -رحمة الله تعالى عليه-، واللغة هي وسيلة التواصل الأولى بين بني البشر، وبناء على هذه اللغة التي تصوغ الحوارات وتزجي حياة الناس في الشارع والعمل والسوق والمنزل.. تتنوع العلاقات ومستوياتها متانة وهشاشة، سلاسة وتعقيدًا، محبة أو بغضاء. في حياتنا كثير من الكلمات والعبارات المتداولة التي أصبحت -لكثرة تداولها وانتشارها بين الناس وترديد الأجيال لها- بمنزلة قوانين وقواعد راسخة، نتصرف حسب مؤداها، ونفكر على طرائقها، ونلجأ إليها لتبرير كثير من المواقف وتفسيرها وتحليلها! كلمات تحولت من كونها كلمات مجردة إلى حكم ونواميس نافذة الصواب، لا تقبل نقاشا ولا مخالفة ولا تعديلا أو تبديلا. كثير من تلك الكلمات تحمل مغالطات، أو ترتكز على مبادئ مغلوطة ومدخلات سقيمة، وتتعاطى مع المواقف بطريقة غير منطقية ولا إنسانية، مؤدية إلى نتائج مضرة أو مسيئة، ومع ذلك فنحن نقدسها بشكل أو بآخر، وننزلها من أنفسنا وقناعاتنا منزلا عالي المهابة والتقدير والامتثال! نستخدم تلك العبارات في حواراتنا في سياقات متفاوتة ومتباينة ومتضادة أحيانًا، وحين نلقيها إلى الآخرين نحظى في الغالب بموافقتهم على مناسبة مضمونها للمقام والمقال، واقتناعهم بها تأكيدًا لسياق الحديث، وربما ختامًا مثاليًا لنقاش استمر وقتا طويلا! نأتي تصرفات وسلوكيات معينة، نعلم خطأها وفسادها وربما ضررها علينا أو على آخرين غيرنا، وفي داخلنا نتمتم بتلك العبارات التي تبرر لنا السوء الذي اقترفناه، نتصرف مع أحدهم –قريبا أو غريبا أو مسكينا أو يتيما- تصرفا فظا لا يليق، ولا يمت بصلة إلى الدين ولا إلى الذوق ولا الإنسانية أحيانا، وللتخفيف من سوءة الحال، نلجأ لعبارة من تلك العبارات الناموسية، وربما ارتفع الصوت بها إمعانا في تخدير ضمير قد يتحرك في الداخل بلوم أو تأنيب أو شعور بذنب أو خطيئة! نستعيض عن عبارات الذوق والامتنان والشكر والعرفان والتقدير والاحترام بعبارات وتسميات ومسكوكات لغوية/أخلاقية أو لا أخلاقية، تبرر قصورنا الذوقي، وقصور نظرتنا إلى الآخرين، وخصوصًا أولئك الذين كان قدرهم أن يكونوا عمالا أو موظفين صغارا. من بين العبارات التي أراها غير مستقيمة في استخدامنا لها عبارة «لا شكر على واجب» التي يرددها بعضهم في معرض التسامي في أداء الجميل وحسن التعامل، وأرى أن أي عمل يقدم لنا فهو يستحق الشكر ويستوجبه، هي كلمة موجزة، لا تكلف صاحبها عناء ولا مشقة؛ بل تعكس نقاء روحه وسمو ذوقه، وتحفز الطرف الآخر لمزيد من التفاني والإتقان والتميز، ولله المثل الأعلى في قوله: «فاشكروني أشكركم». في مقال لمعالي الشيخ حسن آل الشيخ -رحمه الله تعالى- بعنوان «من البخيل» يقول: «ليس البخيل الذي يبخل بماله فقط، لكنه الذي يبخل بإبداء مشاعر الشكر لمن أعانه أو أسدى إليه معروفًا، أو وقف بجانبه في لحظة احتياجه وضعفه؛ فالناس ليسوا جميعًا بحاجة إلى النقود، لكنهم يحتاجون في عديد من المواقف لابتسامة رضا، وكلمة عرفان ومشاعر نبل. يحتاج من قام بواجبه أن تقول له أحسنت بما فعلت، ويحتاج كثير من الجنود المخلصين في معركة الحياة، الذين تعودت نفوسهم على الوفاء والشهامة أن يقال لهم وبصوت مرتفع: أحسنتم… حتى الشخص الذي كان نصيبه خدمتك يحتاج إلى أن تقول له بين الحين والآخر إنك تقدر إخلاصه وجهوده وتعتذر عن إزعاجه». هل سمعتم عن الكلام النفيس؟ هذا هو.