مع نشأة الحضارات على مراحل التاريخ الإنساني انبثقت آداب الذوق العام من خلال معالم التهذيب والترتيب والتنظيم الأساسية التي يلتزم بها الإنسان المتحضر في حياته العامة والخاصة ليظهر برونقه وذوقه الرفيع ، احتراماً لذاته ، وتقديراً لخصوصيات الآخرين ، مستمتعاً بذلك الحس الجمالي في كل تفاصيله بعيداً عن الفوضوية السلوكية . ذلك أن فن الإتيكيت نباهة في النفس، وتهذيب للعقل، واعتدال في المزاج ، وبعدٌ في النظر. إن فن الإتيكيت، أو كما سمّاه مصطفى السباعي رحمه الله في كتابه الشيق « فن الذوق « ليس شكليات مجردة أو عادات برجوازية فارغة ؛ بل لها جذور في تاريخنا العربي والإسلامي الأصيل قبل أن تنادي به فرنسا وأوروبا أو تعرفه الموسوعة البريطانية والأمريكية ، إلا أن بعضنا قد انبهر بالغرب وثقافته السلوكية متناسين مدرسة الإتيكيت المحمدية التي أبهرت الغرب واعتبروها مرجعاً في كمال السلوكيات ومهارات الذوق» إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق «، وبعودة سريعة إلى المرجعية الإسلامية نجد صوراً عظيمة تتضمن هذا البروتوكول الذوقي بدءاً بآداب التحية وإلقاء السلام والمصافحة، وآداب الأكل والشرب واللباس والمشي والجلوس، وخفض الصوت، وآداب الحوار، وثقافة الاعتذار، والاستئذان عند الدخول والخروج، وعند الزيارة، واحترام المواعيد، وغيرها مما يكفينا عن الاستعانة بثقافة الآخر السلوكية . هذا السلوك الإنساني أصبحنا نفتقده كثيراً في حياتنا بإيقاعها اللاهث الضاغط فالمتابع لسلوكيات طلابنا في التعليم يلحظ أن فن الإتيكيت يكاد ينعدم من خلال تصرفات وأحاديث تفتقد مهارات فن التعامل أغلبها عفوية وربما جهلاً منهم بدون تركيز أو تفكير سواء أكان ذلك داخل الفصل أم خارجه في التعامل مع زملائهم ومعلميهم ، وفي التخاطب مع بعضهم باللعن وبذاءة الألفاظ الجارحة، وفي الطابور الصباحي، والإذاعة المدرسية، وترداد النشيد الوطني، وإثارة الفوضى في الصعود والنزول، وعند الوقوف للشراء من المقصف، وفي أناقة الزي المدرسي، والنظافة الشخصية، وإلقاء الأوراق وبقية الطعام في الفصل أو في فناء المدرسة، والعبث بمرافقها، ومداهمة غرف معلميهم بدون استئذان، والقائمة تطول حول هذه السلوكيات الخاطئة التي لم تعد تنفع معها لوائح المدرسة وأنظمتها . كما تغيب هذه الثقافة عند بعضهم في جميع تعاملاته، مستهيناً بحق الطريق والأماكن العامة، وإثارة الفوضى عند إشارات المرور ومخالفة أنظمة السير، وعند التسوق ، والسفر، وسوء معاملة المقيمين والتضييق على الخدم والسائقين، كما يمتد هذا الانحدار الذوقي أيضاً عند بعضهم في التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي ففي تويتر مثلاً تجد هناك شحاذة الريتويت والفولو، وظاهرة النسخ واللصق، والترويج للشائعات، والمسارعة في التخطئة والتسفيه دون تأمل وتفهم للقصد، وتعجب كل العجب في المناسبات والولائم من المعارك التي تدار عندما تفتح البوفيهات ؛ فتجد الأفواج تهاجم لتنكشف لك الأقنعة، وتسقط الكشخة في سباق منقطع النظير. إن تلك القناعات الشخصية التي تعشعش في بعض الأذهان بوعي أو بدون وعي _ نتيجة للبيئة والتربية التي نشأوا فيها وعليها _ تحتاج إلى إعادة صياغة بعض الأفكار والسلوكيات ليكون لديهم قناعة تامة للتمكن من التعاطي مع هذه الثقافة الراقية، واضعين نصب أعينهم قاعدة ذهبية في التعامل « احترم غيرك ودع غيرك يحترمك «، وأيضاً من خلال إفراد مناهج مستقلة في مدارسنا باعتبارها المحاضن الأولى بعد البيت لزرع هذه الثقافة الغائبة عند الأغلب ووضع الخطوط الإرشادية، وتطبيقها ممارسة ومحاكاة على أرض الواقع من خلال التعامل اليومي بعيداً عن التصنع والتلقين، إذ لا يرتفع شأن الإنسان إلا بالاحترام والنظام والذوق حفاظاً على النسيج الاجتماعي لتسمو تلك العلاقات على قواعد سليمة، وأصول إنسانية حميدة.