إذا تجاوزنا الهراء المعتاد الذي يصاحب حملات الانتخابات الأمريكية حول نضال الشعب الأمريكي من أجل الحرية ومقاتلة أمريكا من أجل إعادة تشكيل العالم وجعله عالماً «جيداً» بحسب المواصفات الأمريكية، فإننا سنلاحظ أن هناك تغيّراً كبيراً يظهر في النشاط السياسي الأمريكي في الآونة الأخيرة. لو أخذنا – مثلاً – قضية الطائرة دون طيار، (ترسل هذه الطائرات للقتل وضرب أهداف محددة) وهي قضية مهمة عند الرأي العام الأمريكي ويكثر تداولها في الصحافة والإعلام، خصوصاً بعد أن تضاعف استخدامها وتضخم دورها في الآونة الأخيرة، فهذه القضية تدل على روح الانسحاب التي أتحدث عنها هنا والرغبة في تخفيف الحضور الحسي في الشرق الأوسط . بل قد صرّحت الإدارة الأمريكية عن تحول حركة الولاياتالمتحدة واهتماماتها باتجاه منطقة المحيط الهادئ. ومن دلائل هذه الفكرة هو هذا الانخفاض المتصاعد في عدد القوات المسلحة الأمريكية مما يعني أنها لن تتدخل عسكرياً في أي من النزاعات العسكرية في المنطقة وستكتفي بالدبلوماسية لمحاولة فرض رؤيتها على الآخرين. ومن قبل انسحبت أمريكا من العراق ولم يبق لها فيه أي دور يذكر الآن، تاركة الجمل بما حمل لإيران وحلفائها في العراق. وها هي تدير محركات طائراتها في أفغانستان استعداداً للإقلاع النهائي وسحب كل قواتها من تلك البلاد. في ليبيا سقط معمر القذافي ولم يكن لأمريكا أي دور حقيقي لا في سقوطه ولا في تشكيل الحكومة الجديدة، بقدر ما كان الحضور لدول أخرى كفرنسا وبريطانيا. في المشهد السوري يتضح أكثر من غياب (رامبو) الأمريكي الذي زعم أنه سيتدخل دائماً لإنقاذ الضعفاء، بغض النظر عن صحة أو كذب تلك الدعوى، فالهدف هنا هو رصد غيابه فقط دون الحديث عن نواياه. وقد تحدث الرئيس أوباما مؤخراً أن الغاية التي يجب التركيز عليها هي مصالح الأمن القومي الأمريكي. هذا هو الموقف الأمريكي اليوم ويبدو أنه سيزيد اتضاحاً في مستقبل الأيام. النتيجة الطبيعية لهذا التراجع هي بروز قوى إقليمية أخرى وسعيها لتحصيل النفوذ والسلطة مما بقي من التركة الأمريكية، دول كإيران وتركيا وربما الهند في المستقبل. فالهند تملك كل مقومات القوة إلا أنها لم تعلن بعد عن ممارسة مثل هذا الدور بشكل صريح. كما أن المنطقة سيعاد تشكيلها بناء على استقطابات جديدة وتحالفات نوعية، وظهور القوى العالمية البعيدة كالصين و روسيا من خلال وكلاء في المنطقة وحلفاء استراتيجيين. في ظل هذا المشهد السياسي لا بد لنا في المملكة من تعزيز وحدتنا الداخلية والتغلب على مشكلاتنا الخاصة وعدم الغياب عن لعبة التحالفات التي تبدو فيها تركيا كأبرز مشروع تحالف في المنطقة. ولهذا كان من المناسب أن تأتي زيارة الأمير سلمان بن عبدالعزيز وزير الدفاع لتوقيع عقد حلف صناعي ودفاعي مع الأتراك سعياً وراء مصالح البلدين. نحن في أطراف مرحلة تاريخية جديدة وتحول جذري جوهري في موازين القوى ويجب أن نكون في غاية «الحضور».