لاشك في أن العبث حاكم يومياتنا، والمسيطر على هذا التقهقر الذي نعيشه وهذه السوداوية المستمرة والمنطلقة نحو الظلامية؛ والتي تظهر نتائجها في الغلظة والجور والغبينة والقهر على فقراء الناس، وقليلي الحظ في الوجاهة والسدة. ولعل النزوح عن الموسيقى هو أحد تلك المقومات، واحتلال العبوس والغضب والشدة مفاصل الحياة، حتى إنه تصدى لعلم الموسيقى شريحة عريضة من خَدَم التشدد وأربابه، جعلوا الناس يجنحون لنبذ الموسيقى وإبعاد حظوتها عن حياتهم، وتكريس الجهل والصلادة التي تنافي ماهية الروح. يذكر إخوان الصفا وخلان الوفا في الرسالة الرابعة من الرسائل الرياضية التي جاءت في 14 رسالة، رسالة خاصة بالموسيقى «علم صناعة التأليف والبيان» حيث إن النغم والألحان الموزونة لها تأثيرات في نفوس المستمعين، كتأثير الأدوية والترياقات في الأجسام، واقتبس لكم مما كتبوه (وأعلم يا أخي، أن أحد الأسباب التي دعت الحكماء إلى وضع النَّواميس، واستعمال سُننها، هو ما قد لاح لهم من موجبات أحكام النجوم من السعادات والمناحس، عند ابتداء القرانات وتحاويل السِّنينَ من الغلاء أو الرُّخص، أو الجَدْب أو الخِصب، أو القحط والوباء. فلما تبين لهم ذلك طلبوا حيلة تُنجِيهم منها إن كانت شراً، وتوفِّر حظهم فيها إن كان خيراً، فلم يجدوا حيلة أنجى ولا شيئاً أنفعَ من استعمال سُنن النَّواميس الإلهيّة التي هي الصوم والصلاة والقرابين والدُّعاء عند ذلك بالتضرُّع إلى الله تعالى، بالخضوع والخشوع والبُكاء والسؤال إيّاه أن يصرف عنهم ذلك.. وكانوا يستعملون عند الدُّعاء والتسبيح والقراءة ألحاناً من الموسيقى تسمى (المُحزِن) وهي التي تُرقِّق القلوب إذا سُمِعت، وتُبكي العيون، وتُكسب النفوس النَّدامة على سالف الذنوب. فهذا كان أحد أسباب استخراج الحكماء صناعة الموسيقى، واستعمالها في الهياكل وعند القرابين والدعاء والصلوات).ويتبع.