من غير المعقول أن يتحول (اللحن) إلى ظاهرة، هذا شيء لا يطاق ولا يمكن أن يكون مقبولا. إن أحدنا حين يلحَن.. (بتسكين اللام وفتح الحاء) لا يكون إلا في حالة من الجهل المدقع، ليس جهلا فحسب، إنه مدقع، اللحن هو أن تخرج اللغة وأنت تتحدث أو تقرأ عن قانونها ونظامها واستواء النسج فيها، وأن لا تحسن ضبط الكلمات في مواقعها الإعرابية، وهذا يعني بالضرورة أن الذي يلحن لا يدرك نظام المعنى إلا باعتبار المشافهة، أي أنه في حال من الاعتلال تنبغي مداواته. ربما يكون من الممكن الإشارة إلى كون النحو أو ما كنا نسميه في مناهجنا التعليمية -القواعد- إلى كونه توقيفا ذهنيا، يصعب عليّ الآن أن أقول إنه توقيف شرعي فيقع اللاحن في الحرج، ولا أستطيع أن أفعل وليس هذا الذي يعنيني بقدر ما أريد الإلحاح على فكرة كون اللحن اعتلالا عقليا لا يمكن تبريره ولا ينبغي السكوت عنه. هذه مسألة ثقافية في غاية الأهمية، إن عبدالملك بن مروان حين سمع ابنه الوليد يلحن شعر بالانزعاج، قال: أضر بنا في الوليد حبنا له فلم نلحقه بالبادية. إن البادية كانت معادلا موضوعيا للمنهج الذي يصنع الملكة اللغوية حتى يتشربها الذهن الناشئ، ليس في وسعي أن أتحدث عن المدى الذي تكون فيه اللغة أو الإدراك اللغوي موهبة فطرية غير مكتسبة، غير إنه من الممكن أن نحول اللغة إلى صناعة ذهن لغوي إذا نحن حولنا منهج اللغة إلى ما يشبه البادية التي كان يعنيها عبدالملك. إنها كانت منهجا مسموعا غير أنه محكم في التقنين الفطري وفي الأداء أو التنفيذ. البادية التي كان يعنيها عبدالملك هي اللسان العربي القويم الفصيح الذي لم يؤثر فيه العامل المصادم لفصاحته واستقامته. فبأي سبيل إذن يمكن تحويل مناهجنا في تعليم اللغة، ومنها النحو، إلى صناعة نضمن ناتجها حين يكون ذلك الناتج عقلا لغويا محكما ؟ حينها لن تجد أحدا يلحن. إن في وسع أساتذة التربية أن يحدثونا عن أقصر وأنجع الوسائل لصناعة ذلك الحلم، وفي وسع أساتذة علم نفس اللغة أن يحولوا هذه المسألة إلى بحث علمي رائد. إنني أؤمن بتفاوت الملكات الفردية ومنها الحس اللغوي وإلا كيف أفسر أسباب العبقريات الشعرية إلا بهذا الاعتبار؟ وكيف ندرك تبرير العبقريات البلاغية إلا بهذا الاعتبار أيضا ؟ لكني إذا نظرت في فصاحة العربي الأول واستقامة لسانه عدت بالسؤال عن سر هذه العبقرية السائدة عند العرب في فصاحة واستقامة ألسنتهم، لماذا كانوا كذلك ؟ إن نقاء اللسان العربي كان يعزى إلى تواتر اللغة المنطوقة في بيئة أشبه ما تكون بالتفرد في طبيعتها، إنها بيئة شبه خاصة ليس بها تحولات ولا ثقافات مغايرة أو مصادمة. ربما لأجل هذا كانت عبقرية العربي عبقرية لغوية شعرية، إلى الحد الذي كان معه الجاهلي الأمي يعي ما تقوله القصيدة العظيمة في لغتها وبلاغتها وأخيلتها دون عناء لأنها ابنة بيئته، ولأن سياقه الذهني اللغوي هو نفس السياق الذهني اللغوي لقائلها. كانت عبقرية متماثلة. بينما نحن الآن لا نكاد نتحدث إلا ونلحن، ودعك من إدراك نص شعري متميز أو قراءته قراءة صحيحة، فكيف يكون في وسعنا إذن أن نحول عقلنا العربي أو عقول أجيالنا الناشئة إلى عبقريات لغوية؟ هذا سؤال في التربية وفي المنهج وهو غاية في الأهمية لو تعلمون، ذلك أن اللغة نصاعة العقل في العقل.