عرضتُ في مقالات سابقة أمثلةً للعواقب الوخيمة التي تتربص بالباحثين الذين يخالفون القيم العلمية في الغرب. ومنها، مثلاً، استقالةُ وزيرة التعليم الألمانية، وانتحارُ الباحث التايواني «لين». هذا مع أن «أبحاث» الاثنين لم تصل بهما إلى «النجومية»، وإن بلغ الباحث التايواني منزلة قريبة منها. وهناك أمثلة أخرى للسقوط المريع لباحثين متميزين عالمياً وصلت بهم أبحاثهم «المتميزة» إلى مصافِّ «النجوم». ومع هذا سقطوا من علياء الشهرة لخيانتهم الثقة التي أولتْهم إياها جامعاتُهم والدورياتُ العلمية التي نشرتْ أبحاثهم. وتورد الصحف الغربية الكبرى دائما أخبار هؤلاء من غير مجاملة، وتكشف أوجه خروجهم عن القيم العلمية بصرامة وصراحة. ومن أمثلة ذلك ما أوردته الجارديان البريطانية (14/9/2012م) في تقرير طويل بعنوان: «نتائج (بحثية) إيجابية زائفة: الغش والسلوك الأكاديمي الفاسد يهددان البحث العلمي». واستعرض التقرير ظاهرة الفساد الأكاديمي على مستوى العالم، والأسباب التي تدفع بعض الباحثين إلى هذا المسار الخاطئ، وأورد عدداً من الحالات التي كان فيها الفاسدون أكاديميا «نجوما» بارزين في مجالات تخصصاتهم. وأشار في عنوان فرعي إلى أن حالات الفساد الأكاديمي هذه وضعتْ، بالإضافة إلى التقنيات الحديثة، الخداعَ «العلمي» تحت المجهر. ومن الحالات التي أوردها التقرير حالة الباحث الكوري الجنوبي «هوانج وو سوك» الذي اشتهر عالميا في 2004م بإعلانه في مجلة «ساينس» أنه نجح في عزْل خلايا جذعية من أجنة آدمية مستنسَخة. ونَشر في السنة التالية نتائجَ تُبيِّن أنه صنع سلاسلَ خَلَوية من جلود بعض المرضى وهي تقنية يمكن أن توفّْر علاجا للمصابين بأمراض تحلُّلية مأخوذا من خلاياهم. لكن عمله ذهب أدراج الرياح سريعاً في 2006م حين اكتُشف تزييفه للمواد الأولية التي درسها في بحثه. وأدى ذلك إلى طرده من جامعته، وإدانته في 2009م بالتربُّح من تمويل الأبحاث. والمثال الثاني هو الباحث النيرويجي «جونسو دبو» الذي اعترف في الفترة نفسها تقريبا باختلاق مادة بحثه وتزييفها. فقد اعترف بارتكابه طوال سنوات من الممارسات الخاطئة أكبر عملية غش علمية يمكن أن يرتكبها باحث فرد وهي اختلاقه دراسةً كاملة لتسعمائة مريض وتزييفها ونشرها في المجلة الطبية العالمية «لانس». أما المثال الثالث الأشهر فهو الأستاذ المشهور في جامعة هارفارد، مارك هاوسر Marc Hauser. وكان أحد النجوم الصاعدين في تخصص علم النفس، ومن أبرز المهتمين بعملية تطور الأخلاقيات والإدراك عند الأنواع الرئيسة غير البشرية. وقد استقال في أغسطس 2011م بعد تحقيق أجرته جامعته استمر لثلاث سنوات أدين فيه بارتكاب ثماني حالات من الممارسة البحثية غير الصحيحة. ومن دلائل نجوميته كتابتُه لأكثر من مائتي بحث نشرها في أشهر الدوريات العلمية العالمية، وألف عدداً من الكتب التي ذاع صيتها. كما اشترك مع باحثين عالميين مشاهير في بعض أبحاثه. ومن هؤلاء اللساني الأمريكي الشهير نعوم تشومسكي الذي اشترك معه في بحث مشهور في 2002م. وقد أثنى تشومسكي كثيراً على أبحاث هاوسر، وقال عن كتاب درس فيه تطورَ أنظمة اتصالِ الحيوانات إنه «كتاب جيد جدا»، ووصفه بأنه «أحد أهم المتخصصين المتميزين في علم الأحياء». وصارت قصة مخالفاته البحثية موضوعا عالميا رئيسا للأخبار والتعليقات لفترة طويلة على الصفحات الأولى للصحف الأمريكية الكبرى كالنيويورك تايمز والواشنطون بوست، والبوسطن جلوب، وغيرها، كما كانت موضع اهتمام الصحف العالمية الكبرى خارج الولاياتالمتحدة، وكثيرٍ من المجلات الإخبارية وقنوات التلفزة ومحطات الإذاعة والمجلات العلمية المتخصصة. وكان ثلاثةٌ من طلاب الدراسات العليا الذين كانوا يدرسون تحت إشرافه ويعملون معه في مختبره قد اكتشفوا ممارساتِه المخالفة للقيم العلمية. فقد عبَّروا للمسؤولين في الجامعة عن شكوكهم في النتائج التي ادعى أنه وصل إليها في بعض أبحاثه. وقامت الجامعة باقتحام مختبره في أثناء غيابه في أستراليا سنة 2007م، وفحصت محتوياته وأخضعت ذلك كله للتحقيق الذي قاد إلى كفِّ يَده عن العمل في المختبر لمدة عام. ثم انتهى التحقيق بإدانته. وكان التقرير عن إدانته قد سُرِّب للصحافة مما اضطر الجامعة لإعلان نتائج التحقيق بصورة موارَبة. ثم أعلن أحد كبار المسؤولين في الجامعة إدانة هاوسر بالممارسات المنهجية الخاطئة في رسالة وجهها إلى أعضاء هيئة التدريس. ولما رجع هاوسر بعد غياب السنة صوَّت أعضاء هيئة التدريس في كلِّيته بالإجماع تقريبا ضد استئنافه التدريس في الكلية وإن كان من أكثر الأساتذة فيها تمتعا بالقبول عند طالباتها وطلابها. ودعا تحقيق الجامعة إلى أن تسحب بعضُ المجلات العلمية المرموقة بعض الأبحاث التي نشرتها له وأعلنت عن عدم صحة نتائجها. واعترف هاوسر في البداية بارتكاب التزوير في بحث واحد، وتلكأ في الاعتراف بالتزوير في الأبحاث السبعة الأخرى. وقال في بيان أرسله إلى المجلة العلمية «نيتشر» التي نشرت بعض تلك الأبحاث: «لقد سمحتُ لبعض التفصيلات أن تُفلت من يدي، وبصفتي مديراً للمختبر، فإني أتحمل المسؤولية عن الأخطاء التي ارتُكبت فيه كلها، سواء أكان لي يد مباشرة فيها أم لا». وكان أخطر شيء في ما ارتكبه هاوسر أن أثره يتعدى إلى مجمل البحث العلمي الذي يَستخدم التقنيات البحثية نفسها التي استخدمها. واللافت في حالة هاوسر، كما يقول تشارلز جروس (The Nation, 9-16, January, 2012)، أن طلاب الدراسات العليا الثلاثة الذين كشفوا تزييف هاوسر لم يتعرضوا لما يمكن أن يتعرض له مَن يكشفون مثل هذه الأخطاء من الطرد أو الإقصاء (كما حدث للباحث «دانيال يوان» في جامعة جون هوبكنز(انظر مقالي «انتحار باحث!»)، بل انتهى الأمر بهم لأن يصبحوا باحثين متميزين في الجامعة نفسها. كما يلفت النظر أن جامعة هارفارد لم تتستر على مخالفات هاوسر ولا الأبحاث المعطوبة التي أنجزها في مختبراتها، كما حاولت جامعة جون هوبكنز أن تفعل، ولم تتردد في طرد هذا الباحث «النجم» الذي خالف التقاليد العلمية العريقة التي عُرفت بها. ذلك مع أن هناك من يتهمها بأنها لم تكشف عن هذه المشكلة بشكل أكثر وضوحا. ودافع تشومسكي عنه واتهم الجامعة بفصله لأغراض أخرى. لكن دفاعه لم يغن عن هاوسر شيئا، ولم يثنِ الجامعة عن قرارها. وكما أشرت في مقالات سابقة فإنه على الرغم من جرأة بعض الباحثين في الغرب على ارتكاب الغش والتزوير في أبحاثهم إلا أن الجهود الصارمة التي يبذلها الباحثون الحقيقيون، وتبذلها الهيئات العلمية، تنجح دائما في فضح هؤلاء الفاسدين، وتضطرُّهم إلى دفع أثمان انتهاكهم للأعراف العلمية المحترَمة.