يصمم نشمي مهنا ديوانه «البحر يستدرجنا للخطيئة» عبر نثر قصائده في مجموعات تحمل عنوانا كبيرا تندرج تحته عناوين متعددة، وهي تتتابع على شكل ثلاثية «على عتبات القلب، في حجراته، في الضفة الأخرى من الحلم ..»، بينما لا تتركز تلك العناوين المنتثرة تحت العناوين الكبيرة لتعطي صيغة ما، تبدو للوهلة الأولى تلك القصائد على أنها مرتبطة ضمن عنوان واحد كبير، ولكنها في الداخل تشكل قصائد تطول أو تقصر، ولكنها قصائد مكتملة تحت عناوينها الخاصة، وهي تبدو كمقطوعات مكتملة دون الحاجة لغيرها، ولكنها تدور في فلك واحد مثل مقاطع قصيدته «في الشهر التاسع للغربة !»، كما نلاحظ اختفاء الفهرست من الديوان. تفيض الغربة من روح الشاعر عندما تستولي عليه غربة مضاعفة، تبدو حالة البعد عن الوطن غربة، تعززها عزلة الشاعر في الوطن ذاته، تلك الحالة التي يعبر عنها نشمي في هذه القصيدة التي نحن بصددها، بينما تتوارد العناوين على المقاطع بالترقيم «1- افق، 2- إضاءة وجه، 3 – عقدة، 4 – حساب ختامي، 5 – ألق، 6 اختراق، 7 – قناع، 8 لها طعم آخر، 9 – أصابع، 10 – اعتياد، 11 – رباط»، وبالتالي تحتوي هذه القصيدة على أحدعشر مقطعا تتعلق كلها بحالة الغربة ابتعدت أو اقتربت، ونلاحظ على العناوين إما كونها تمتد وإما تختزل في كلمة واحدة. أن تغترب هو أن تغادر الوطن المحسوس، لكنك لا تستطيع الخلاص من وطن تحمله داخلك أينما ذهبت، أن تذهب إلى بلاد لغتها ليست لغتك، وعاداتها ليست عاداتك، على الرغم من تلك الدوافع الشقية التي تجبرك على البعد «عن الوطن، والبحث عن» ما يعادله في الغربة، وطن غيره، تظل ارتباطات الروح تدفعك نحو ما جبلت عليه في ثقافتك الأم مهما طالت الغربة، ذلك ما يعبر عنه الشاعر من خلال تلك الحالة المزدوجة التي تثير ألمه الداخلي، وهي حالة التمزق بين أشواق لا تنام، وبين واقع ضاغط لا يند، ذلك التمزق الذي يعبر عنه نشمي برفض النهايات التي تعبر عنها ساعة الغروب، وقد تغيرت الأيام التي يعطل فيها الناس، ويعدونها احتفالية ما بنهاية الأسبوع، أيام الآحاد سابقا، بينما نتوق إلى جمعة كانت منتظرة في وطن مشغول بغيرنا. « 3 – عقدة كنت وما زلت أكره النهايات / وساعات الغروب/ ما لي وقد اختلفت الأيام هنا / وبدلت مواقعها / ما زالت تنقبض روحي / في مساءات أيام الجمع». إنه ذلك الحنين الذي يعبر عنه الشاعر حين يستبد به الحنين إلى المكان، اللحظات الجميلة، الشوارع، البحر، رائحته، وكل الوجوه المألوفة التي يستطاب ذكرها، ولكنها تصبح مؤلمة، حين يشب الحنين، ولا يستطاع له دواء، فيظل جدار القلب موجوعا بما يقرضه من حنين حاد، له وجه ناري معذب. «6 – اختراق تقرض لحاء القلب / هذه الذكرى / السنجاب / حادة الأظفار/ وهذا الوجه الناري .. « تظل المرأة المعادل الموضوعي عند شعراء الخليج العربي للمدينة، على أننا في دولنا الصغير مثل الكويت والبحرين تتمدد المدينة من أصلها القروي؛ لتبتلع كل ما جاورها، وتمتد لتشمل وطنا كاملا، إن مساحتنا الصغيرة تؤهلنا لدولة المدينة، سرعان ما تختفي الضواحي التي كانت منبتة عن مركز المدينة لتبتلعها، نعم إنها ذات الحالة التي تنمو فيها المدن في كل العالم، لكن مدينتنا لا يمكنها التمدد كثيرا بحكم أنها تبتلع الوطن بكامله أو تكاد، المرأة في الغربة وطن، ترى هل الوطن في الغربة امرأة، حيرة الشاعر عندما تصطلمه الغربة وتتركه يتأمل حالة القرب والبعد لمدينة هي المرأة، وليست أية امرأة، هي الزوجة التي يختارها القلب فيمكن أن يفرض عليها حالة الانتظار، كما هي روحة التي تنتظر. «11 – رباط في آخر ساعات الليل / أحس أن هذه المدينة زوجتي / عليها أن تنتظرني إلى آخر/ إشراقات الفجر ..» كيف لنا أن نتذكر التفاصيل الصغيرة، نمر كل يوم إلى أعمالنا دون أن نلحظ تلك الشجرة العملاقة في ناصية الشارع، ولكننا فجأة ندركها بعد أن تغيب، ندرك أننا فقدنا جمالها الذي كان يحتل المكان، التفاصيل المألوفة تدخل أحاسيسنا في التبلد، لا نكاد نشعر بأهمية ما بات مألوفا لدينا، كذلك يتحول نشمي مهنا في الغربة إلى شجرة لا يكاد أحد يلحظها، إنه يخبئ ذاته خلف استعارة شخص ما غير معروف، حتى للشاعر ذاته، إنه يتكلم عن ذاته بصيغة الغائب عندما يتحول إلى شجرة ما، تلك الشجرة رغم مرور الناس تحت أغصانها، إلا أنهم لا يلتفتون إليها، إن عدم التفاتهم دليل تلك الألفة الغريبة التي تحيله إلى مالا يلتفت إليه، إلى مالا قيمة له، إلى الساكن في الظل أو في السكون. تلك غربة مزدوجة في الروح تعبر عن حالة غياب مزدوج بين الهو والهم «10 – اعتياد (بعد شهور ثلاثة / اعتاد أهل القرية الصغيرة / على قراءة قسمات وجهه / الآن ../ يحس أنه شجرة صامتة / في ليل صيفي هادئ/ يمرون تحت أغصانها الوارفة / ولا يلتفتون ..). يمكننا تلمس أهمية العنوان في هذه القصائد التي يكاد يلعب فيها دورا مركزيا يوازي تلك الحالة التي تنحرف أسلوبيا داخل القصيدة لتخلق أثرا مرجوا عند المتلقي في نهاية القراءة، فحيث نقرأ العنوان «لها طعم آخر» نبدأ في التساؤل، من هي التي لها طعم آخر؟ ولا نستطيع إلا الذهاب إلى أنوثة الضمير الدال. ودائما ما نرجع في ذاكرتنا اليومية لذاكرة الطعوم التي نتذوقها، تلك الذاكرة التي نكاد لا نستعملها إلا خارج الألفة، هي نوع من الإيقاظ للحواس عند حالة التغاير، ولعل العنوان لا يكاد يدلنا على أكثر من ذلك، ولكننا حين نقرأ القصيدة نعرف قيمة العنوان الذي يشير إلى تلك المرأة النادلة في المطعم البحري، ونحن نذهب للمطعم لنأكل ونشرب ونحرك حواسنا الداخلية للطعوم، ولكن ترى ما طعم تلك المرأة التي تبقي صحون الشاعر ممتلئة وهو يلتهم ملامحها، عندها فقط يمكن أن يقفز العنوان ليقول إن هذه المرأة لها طعم آخر لا يشبه ما يوجد على الصحون، إنه ذلك الإبدال بين الحواس التي يمكن أن نلعب بها، كم هو مهم شكل الطعام عندما يقدم أمامك، فللجمال لذته، كم هي قادرة تلك النظرات على التهام جمال امرأة لتخلق حالة من التلذذ، لا يمكن للتذوق خلق لذة مشابهة تبعد الغربة التي تنهض من جديد داخل تلك المرأة الوطن؛ لتسبح في الأفق العام للقصيدة «8 – لها طعم آخر (يليق بها اللباس الموحد أيضا/ جرسونة المطعم البحري في الحي القديم / التهمت عيناي ملامحها / ومازالت صحوني ممتلئة ..).