كنت خلال يوم المهنة أتجوّل بين أروقة المعرض مثل أي طالب يبحث عن فرصة أو عرض يليق بما حصل عليه من علم حديث، بعدما أثبت ابتعاث خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود -أطال الله عمره- أن لدينا من العقول ما نكسب به الرهان على المستوى العالمي، فالتعليم الجيد سيعطي شعباً جيداً، والشعب الجيد سيقود البلد نحو العالم المنافس. كان المعرض يزخر بالخريجين من مختلف التخصصات ومن مختلف الجامعات البريطانية ترتسم على الجميع نشوة الفرح بالنجاح والتخرج الذي كان يقف خلف مظهره الرائع جهود جبارة مسبقة من الملحقية الثقافية بلندن. مع كل هذا الفرح إلا أنني لا حظت أن انطباع بعض الطلبة عن المعرض كان أقل من طموحهم كثيراً. فبعض المؤسسات التي جاءت من الوطن لتقدّم عروضها لم تأت لتحصد النتاج اليانع في حقول الماجستير والدكتوراة ذات التخصصات الجديدة، إنما ارتأت أنه من الحصافة التأني عند الإقبال على التعرف على مجالات الماجستير والدكتوراة الجديدة، وبدلاً من ذلك فالسؤال عن تخصص البكالوريوس يبقى هو الأضمن للجوده بمقاييسهم! وهو شعور محبط مخيب للآمال على أية حال. لو بحثنا في إحصاءات الطلاب المبتعثين لنيل الدراسات العليا على وجه الخصوص لوجدنا أن أغلبهم يحمل درجة البكالوريوس من إحدى الجامعات المحلية. في اعتقادي الشخصي أن مالا يقل عن ثلث هذه الفئة رأت أن الانخراط في مجالات علمية جديدة مغايرة للبكالوريوس سيوسع الفرصة في مجال تطوير وتنويع المعرفة واسترفاد تقنيات علم قد تكون مستحدثة. إلا أن النظارة البيروقراطية التي جاءت إلى معرض لندن كانت تتفحص في كل سيرة ذاتية متقدمة مجال البكالوريوس خوفاً من الإقدام الذي قد يحمل مخاطرة ومجازفة فيما لو تم استقطاب مبتعث تحول في دراساته العليا إلى مجال جديد فيعتذر من طالب الماجستير والدكتوراة المتخصص في حقل علمي جديد مغاير لشهادة البكالوريوس إذا كان البكالوريوس في تخصص تشبع منه البلد. وعلى الرغم من أن هناك من حصل على درجة الماجستير والدكتوراة من جامعات مرموقة ومنافسة دولياً إلا أن الرد الذي لم أستطع تفسيره حتى اللحظة هو ما وقع في أذني من الطالبة عفاف: «قال لي معتذراً بالإنجليزية بعدما أخبرته أن البكالوريوس مغاير للماجستير والدكتوراة You are over qualified! لم تكتف بعض النظارات البيروقراطية القادمة إلى لندن بتفحص تخصص البكالويوس، بل إن بعضها الآخر صار يدقق في مستوى الجامعة البريطانية التي تخرج فيها المبتعث على الرغم من أن جميع المبتعثين تحت مظلة وزارة التعليم العالي يخضعون لمعايير مسبقة حتى يتم ضمهم تحت مظلة الدعم والإشراف من قبل الوزارة، وهو ماتمتمت به إحدى الحاضرات بقولها: بعض بيروقراطيي المعرض كانوا يردوننا على أعقابنا حينما يرون أننا لسنا من خريجي كامبريدج وأكسفورد على وجه الخصوص! على أية حال، لم يكن هم البحث عن وظيفة هو هاجس الطلبة السعوديين في بريطانيا. لا يزال الهاجس الأول للمبتعثين حول العالم هو المكافأة المالية على العموم، وعلى وجه الخصوص المبتعثين للدراسة في العواصم والمدن المالية الغالية جدا مثل نيويوركولندن وباريس. جميع المبتعثين تقريباً في كل بلدان العالم سواسية في المكافأة ولكن ليسوا جميعهم كما يعلم الجميع أنهم سواسية في المصروفات. حينما يعطي الطالب مثلاً مكافأة تقترب من 1100 باوند في لندن فإن صرفها لايكون متساوياً فيما لو تم إنفاقها في مدينة بعيدة مثل داربي مثلاً. لندن على سبيل المثال غالية جداً وفي البحث عن سكن طالب بمواصفات آمنة توفر له خدمة الإنترنت والنادي الرياضي وتتكفل بالصرف على فواتير الكهرباء والماء والغاز ضمن عقد الإيجار كشقة استديو فإن السعر يتراوح شهرياً مابين700و900 باوند! حسناً ماذا تبقى لمصروفات المواصلات اليومية (القطار والباصات) والمعيشة داخل السكن ونفقات الجيب المتعلقة بوجبة غداء أوكوب قهوة منتصف النهار في الجامعة مع الطلبة وشراء ملابس للشتاء أو حتى للترفيه لمرة واحدة كل شهر مع جماعة الدراسة والعمل؟ في هذه الحالة قد يلجأ بعض الطلبة للاستئجار من «المشردين» البريطانيين من المسلمين المتجنسين بطرق غير نظامية وهو ما لاينكره بعض المبتعثين بالإضافة إلى أنه صورة لا تتواءم أبداً مع مقام مبتعث من أجل العلم والمعرفة هدفه الأول الالتزام بالأنظمة وأن يكون أنموذج القدوة الحسنة. مما يضطر أهل الطالب في السعودية لعونه وهي صورة أرى أننا بحاجة للتخلص منها لنتعلم كيف يكون الفرد مسؤولية نفسه أولا ثم مسؤولية المؤسسة التي ينتمي إليها في حل إشكالاته لأن في رمي حل إشكال مثل هذا النوع من المشكلات على أسرة المبتعث في السعودية نوع من انعدام العملية إذا سلمنا أن أغلب المبتعثين جاءوا من أسر كبيرة العدد متوسطة الدخل ولولا مشروع الابتعاث الذي قاده خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود لما أطال الله في عمره، لما تمكنا من رؤية الآلاف من الطلبة الذين نراهم حولنا من كل بقاع العالم. فضلا عن أن تباين مستوى معيشة أهالي الطلاب المغتربين قد لا يعطي بعضهم الجرأة بالبوح بصعوبة العيش لأن في ذلك شرخ لكرامة النفس التي هي من سماتنا العربية والتي لا نستطيع أن ننسلخ عنها. وفضلاً عن ذلك فإن الطريق الوحيد للعيش بكرامة في الخارج هو تدبير الأمور والسكن وإن كانت مخالفة لقانون البلد وفي البحث عن عمل إضافي مضيعة للوقت الحقيقي المفترض أن يستغل في القراءة والبحث والدراسة. ومع كل هموم الغربة، يتفاءل المبتعثون في بريطانيا كثيراً بالمستقبل ويقدرون كثيراً الجهود الجبارة التي تقوم بها وزارة التعليم العالي من أجلهم في جميع أنحاء العالم. فالابتعاث الخارجي منح فئة كبيرة من المبتعثين رؤية العالم من نافذه جديدة أكسبته كثيراً من المهارات العلمية والاخلاقيات المهنية والثقافات المتنوعة، شكرا لخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود وحفظ الله وطننا الغالي، ونحن المبتعثون على الوعد دائماً مع أجمل وطن.