إنَّ أعظمَ ما تصابُ به الأوطانُ هو أن يتجسَّسَ بعضٌ من مواطنيها عليها لصالح دولٍ أجنبيَّة مقدِّمين لها معلوماتٍ وخرائطَ عن مواقعها ومنشآتها الحيويَّة، مدفوعين بإغراءات ماديَّة، أو محرَّكين بمصالحَ شخصيَّة، أو متأثِّرين بمواقف طائفيَّة مذهبيَّة، أو كردَّات فعل بتأثير ظنونٍ بإحساسٍ بالظلم في مجال تكافؤ الفرص الوظيفيَّة والاستثماريَّة قد تكون صحيحة وقد لا تكون، أو للبحث عن دورٍ فكريٍّ وعن مكانة اجتماعيَّة عن طريق التوهُّم بتصنيفهم بالمعارضة، ولا يشابه التجسُّس في عِظم المصاب على الوطن بالإضرار الخارجيِّ به بالتعاون مع دولةٍ تتربَّص به إلاَّ تحريضُ مواطنين تجاه وطنهم وقياداته وتأليبهم الرأيَ العام، ويعظم ذلك حينما يمارسه محسوبون على الإسلام مشايخَ ودعاةً ووعاظاً. وحين أكتب مدافعاً عن وطني شعباً وكياناً جغرافيّاً وسياسيّاً، فإنِّي مع ذلك أنشدُ الإصلاحَ والتطويرَ في جوانب تشريعيَّة وقضائيَّة وخدميَّة واقتصاديَّة وسياسيَّة، ولكنِّي في الوقت نفسه أثمِّن لوطني خطواته الإصلاحيَّة والتطويريَّة التي يلمسها كلُّ مواطنٍ منصفٍ متطلِّع ليرى وطنَه بين الدول المستقرَّة الآمنة المتحضِّرة، كما أناشد أيضاً بتسريع خطواته هذه، إلاَّ أنِّي أرجع لذاتي ولوطني متأمِّلاً أوضاعَه الاجتماعيَّة والثقافيَّة وطموحاته التطويريَّة فأقف أمامها مُتَبَيِّناً معوِّقاتٍ تحدُّ من تسريع خطوات التطوير والإصلاح، معوِّقات تسبق تلك الخطوات وأخرى تأتي كنتائج لها تعرقل الخطوات اللاحقة، الأمر الذي يتطلَّب التأنِّي والتخطيط الواعي، وأن ينطلق من وعيٍ ناتج عن الحراك الوطنيِّ الاجتماعيِّ والثقافيِّ، وأن يلي التوعيةَ الوطنيَّة المسبقة، وفي ضوء ذلك كلِّه سيتناول مقالي هذا ما أُصِيْبَ به وطني في الأيَّام السابقة ببعض مواطنيه وببعض مشايخه. فمصابُ وطني ببعض مواطنيه كُشف بتصريح المتحدِّث الرسميِّ باسم وزارة الداخليَّة القائل: إِنَّه توفَّرت لرئاسة الاستخبارات العامَّة معلوماتٌ عن تورُّط مواطنين ومقيمين بالمملكة في أعمالٍ تجسُّسيَّة لمصلحة دولةٍ حاقدة؛ وذلك بجمعهم معلومات عن مواقع ومنشآت حيويَّة والتواصل بشأنها مع جهاتٍ استخباريَّة فيها، وأضاف أنَّه خلال عمليات أمنيَّة قُبض على 16 سعوديّاً بالإضافة لشخصٍ إيرانيٍّ وآخر لبنانيٍّ في أربع من مناطق المملكة، وقال: إنِّ الإعلان عن عمليَّة الاعتقال جاء لأنَّ للمتَّهمين عائلاتٍ وأصدقاء يجب أن يعلموا مصيرَهم، وأنَّه ستتَّخذ الإجراءاتُ النظاميَّة بحقِّهم للتحقيق معهم وإحالتهم إلى الجهات العدليَّة، وفي تصريحٍ تالٍ للمتحدِّث الرسميِّ أوضح أنَّ التحقيقاتِ كشفتْ ارتباطَ أفراد هذه الخليَّة التجسُّسيَّة بإيران. ومصابُ الوطن ببعض مشايخه الدعاة جاء في الخطاب الأخير للشيخ سلمان العودة، رافعاً لغةَ تهديدٍ لم تُعهد منه بعد مشواره الصحويِّ، ولذلك أستغربُ ممَّن قالوا عن الشيخ العودة في قراءتهم خطابه: «إنَّ هدفه نبيل ولكن وسيلته غير مجدية»؛ فطريقةُ معالجته قضايا المساجين داعيةٌ إلى الفوضىِ، فقوله: «إنَّ السجون خلت من أيِّ استراتيجية» تعميمٌ يؤلِّب الرأي العام، وقوله: «إنَّ الناس يحتاجون إلى جهةٍ لا تنتسب إلى الأمن تتحدَّث عن السجون» تحريض على الوطن، في حين أنَّ جمعيَّة حقوق الإنسان تدحض تعميمه وتكشف تحريضه شاهدةً بوجود استراتيجية واضحة تراعي احتياجات المسجونين الإنسانيَّة، فسجون المباحث محطة عبور إلى القضاء الشرعيِّ الذي يتحمل تأخير البتِّ في قضاياهم، والمبالغة بأعدادهم وبالقول بتعذيبهم المفرط وبانتهاك حقوقهم الإنسانية تأليب للرأي العام، فلعلَّ الشيخ العودة أن يراجع نفسه فيكون أكثر حرصاً على لحمة الوطن، وأن يتوقَّف عن تأليبه الرأي العام قبل وقوع محذور تُحسب مظاهره عليه، فموضوع سجناء الرأي وسجناء الفئة المغرَّر بهم لا يُحلُّ بالتجمعات وبالاعتصامات ولا بخطابات التهديد والتصعيد، ولا يختلف عن الشيخ العودة مشايخُ ساروا مساره قبلُ وبعدُ لن أعدِّدهم فالوطن أعلمُ بهم، ولكنِّي سأذكِّر بالمشعل جدالاً فصراعاً في الساحة الأدبيَّة مصوِّراً الحداثة مدخلاً شيطانيّاً لهدم الدين ولنشر ما يتعارض مع مبادئه وقيمه، ذلك الواعظ الناشر احتساباً كتاباً في ذلك أصبح مرجعاً لكلِّ من سار مساره، على الرَّغم من إعلانه فيما بعد أنَّه أخطأ في تسرُّعه بنشر كتابه ذاك ردَّةَ فعل منه حينما لم تتح له مداخلةٌ في نادٍ أدبيٍّ آنذاك، إنَّه الشيخ عوض القرني المتجاوز دورَه الوعظيَّ مستعدياً على شرائح من المثقَّفين بوصفهم بالليبراليَّة وبالتغريب؛ إذْ مازال مشواره مع الحداثة مؤثِّراً فيه نشوةً، ولعلَّ ما أنجزه إخوانُه المسلمون التوانسة والمصريُّون قد نشَّطه ليعود لدوره السابق محتسباً في الثقافة والسياسة متوهِّماً بأنَّها تعكس عليه درجة من الأهميَّة في وطنه وبين مؤيِّديه. كما أنبِّه الشيخ الدكتور محسن العواجي بأنَّ منهجه المتنامي حدَّةً بانتصار الإخوان المسلمين في تونس ومصر، ذلك المنهج الذي تصدَّيتُ له في محاضرته في محافظة عنيزة ليس طريقاً للإصلاح وإن تفاخر بجرأته وشجاعته وصفَّق له حضور، وبأنَّه لا يخشى سجناً ولا فصلاً من وظيفة، وتحدِّيه لي بالخروج معه للمطالبة بما يطالب به، فذلك منهج سيصيبُ الجبهةَ الداخليَّة في لحمتها والوطنَ بأمنه واستقراره، فليراجع منهجه متجاوزاً أساليب التحدِّي للوطن وللمواطن الرافض لمنهجه. فليعلم أولئك المتجسِّسون والمحرِّضون المؤلِّبون الرأيَ العام أنَّ مصابَ وطني فيهم مصابٌ عظيم، ولكنَّ الله سبحانه وتعالى كاشفٌ خططهم، وأنَّ ثقتنا بأجهزتنا الأمنيَّة وبقياداتنا الحكيمة ستدرأ عنَّا ما يُحاك ضدَّ بلادنا، وستوطِّد أمنَها واستقرارَها بمشيئته تعالى.