برعاية كريمة للتراث والثقافة من لدن خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز تنطلق خلال الأسبوع المقبل -وتحديدا في اليوم الثاني والعشرين من الشهر الحالي- فعاليات المهرجان الوطني للتراث والثقافة في دورته الثامنة والعشرين، وستكون دولة الصين ضيف الشرف الذي يحل على المهرجان الوطني لهذا العام 1434ه، وهذه الدولة من أكثر الدول الآسيوية التي تعنى بالثقافة والتراث، وتضخ كل عام ميزانيات ضخمة تقدر بمليارات الدولارات للعناية بالتراث والثقافة، ولحماية مقدرات الشعب التراثية، وتقدم أنموذجا حيا ورائعا للعناية بالخدمات الثقافية في الأرياف، وهي تجربة رائدة تستحق الإشادة والتأمل. مضى أكثر من ربع قرن على افتتاح أول مهرجان وطني للتراث والثقافة، (الجنادرية)، انقضت هذه الأعوام وقد رسخت في الأذهان المفهوم الوطني الكبير للحفاظ على تراثنا وثقافتنا والموروث الإنساني الشعبي، المحسوس منه والملموس والمحكي منه والمكتوب، مرت هذه السنوات وقد تركت ذكراها الأولى محفورة في الأذهان، فمن منا لا يتذكر أنشودة: عمي عمي أبو فلاح جايب جايب لنا هدية هدية حلوة من التراث في مهرجان الجنادرية ومن منا ينسى تلك الإطلالة البهية التي كانت تطلها القرى التراثية في بداية تكوينها وأصبحت اليوم معلما حضاريا من معالم التراث على أرض الواقع، ومن منا لا يتذكر المسرح الأول الذي أقيمت عليه أول الاحتفالات في الجنادرية، ومن منا لا يتذكر القصائد الرنانة التي تأتي في حفل الافتتاح، الفصيحة منها والشعبية التي خلدت في الأذهان قصة كفاح الإنسان، ومن لا يتذكر قصائد الشاعر الكبير خلف بن هذال التي كانت تواكب الأحداث السياسية والاجتماعية أولا بأول، يا لهذا العمر الذي يتقدم بنا، ويا لهذا الزمن الذي يجري معنا ومن حولنا، ونحن نتابع أيامه بلهفة ونحسب لياليه بشوق وننتظر إطلالة المهرجان الوطني كل عام، لقد انقضت ثمانية وعشرون عاما ومهرجان الجنادرية عوده معتق، وبخوره شامخ لم يتأثر بتقادم العمر، ولم يَشِخْ بفعل السنين، بل يزداد قوة وتوهجا ولمعانا كل عام. المهرجان الوطني للتراث والثقافة من أهم التظاهرات الثقافية في المنطقة العربية وله دور بارز في تعريف العالم بنا وبتراثنا، وثقافتنا، فالأنشطة المنبرية التي يقدمها كل عام تتسم بالقوة والجدية في الطرح، وبالجزالة في المعنى، والدول التي تحل ضيوفا على المهرجان تقدم نماذج جميلة من تراثها وثقافتها، وهذا العام تأتي البرامج قوية كالعادة، ومتوائمة مع الأحداث الجديدة في عالمنا العربي والإسلامي لتنقل صورة حية لمتابعي الحراك الثقافي في الداخل والخارج، فالجدول الثقافي زاخر بالأنشطة النوعية، فضلا عن مسابقة القرآن الكريم والعروض المسرحية والفنية فإن برنامج الفعاليات حافل بالأمسيات الشعرية والندوات الفكرية والمحاضرات الثقافية التي تناقش متغيرات الوطن العربي والإسلامي، والتحديات الجديدة التي تفتح أبوابا واسعة على الثقافة والأدب والفكر الحديث الذي يواجهه العرب والمسلمون في الوقت الحالي، متمنيا أن يحظى الشباب بنصيب الأسد من هذه البرامج وأن تكون هي الفئة المستهدفة الأكثر حظا. فمهرجان (الجنادرية) خلال مسيرته الطويلة عكس انطباعا جميلا، وصورة مشرفة عن مملكتنا الغالية، وما تحمله في ثناياها من تراث عربي أصيل بثرائه وتنوعه، فعلى مدار شهر إلا قليلا، يقدم المهرجان الوطني البرامج الرسمية الثقافية المتنوعة بين التراث والأدب والثقافة واستضافة إحدى الدول لتقدم لنا برامج للتعريف بها وبتراثها الإنساني، فضلا عما تقدمه القرى التراثية السعودية من برامج وفعاليات ثقافية سياحية وترفيهية، تنقل صورة مصغرة عن التراث الأصيل للمناطق والمحافظات والقرى في جميع أنحاء المملكة وكافة أرجاء الجزيرة العربية، كل ذلك جميل ورائع، ويقدم خدمات جليلة في التراث والثقافة لا ينساها الزمن. ونظرا لمكانة المهرجان العظيمة في نفوسنا وفي وجدان الشعوب العربية والإسلامية، فإننا نتمنى من القائمين على إعداد البرامج الثقافية كلما وضعوا في حسابهم المتغيرات الجديدة، أن يتم التركيز على فئة الشباب من الجنسين فهم عدة الوطن وهم عماد المستقبل، وهم السواعد التي نعول عليها في استمرار البناء والنماء، فبالهمم العالية تعلو مكانة المجتمعات وبصلاح الشباب ترتقي وتستقيم الحياة، وعلى العكس فإن عدم الاهتمام بالشباب يجعل المجتمع في فوضى عارمة، ويشيع الجهل، وتكثر فيه الانحرافات والأمراض النفسية. فلم لا يكون المهرجان الوطني من أهم الحاضنات الاستراتيجية لطاقات الشباب ومواهبهم؟ هذه الطاقات التي ستسهم بلا شك في دفع حراك عجلة التنمية الفكرية والثقافية والاجتماعية في الوطن العربي، فإشراكهم في البرامج المعرفية وإثراء معارفهم واجب وطني وإنساني، وضخ أكبر قدر في عقولهم من ميراثهم الشعبي يعزز حضورهم في المشهد الثقافي ويجعلهم على تواصل دائم مع تراثهم الإنساني الكبير والعظيم، وإشراكهم في الأمسيات الشعرية، والثقافية مع الرواد -ليستفيدوا من خبراتهم وتجاربهم- مطلب حضاري، ليستمر العطاء والبناء وهم على اتصال حقيقي وامتداد متواصل مع هذه الجسور الممتدة والمتصلة بين الماضي والحاضر لثقافة الوطن.