معرض الرياض للكتاب، الذي طويت صفحته السنوية الأسبوع قبل الماضي، صنع منه رواده فضاء اجتماعياً فريداً وأنتجوه، بشكل غير متوقع، مكاناً مختلفاً من ناحية السلوكيات والتوقعات والتصورات عن مجرد سوق للكتاب. كيف؟ سأشرح، لكن بعد أن أقدم إطاراً نظرياً لما أعنيه بمصطلح «الفضاء الاجتماعي». بشكل عام، يقصد بالفضاء الاجتماعي في العلوم الاجتماعية الأمكنة التي يجتمع فيها الناس ويتفاعلون، سواء كانت هذه الأمكنة فيزيقية أو افتراضية. وبناء عليه، فإن الأسواق والمعابد والساحات ومواقع التواصل الإلكتروني تعد فضاءات اجتماعية، (ويكيبيديا). في هذه المقالة، سأعالج الفضاء الاجتماعي من زاوية سيمائية/اجتماعية. وسأقدم لمحة نظرية معتمداً على المقالة الممتازة للدكتور شهاب اليحاوي المعنونة ب «سيميائية الفضاء وتعقّل المشكلات المدينية» والمنشورة في موقع «شبكة النبأ المعلوماتية». بحسب اليحاوي ترى السيميائية الفضاء بوصفه نظاماً من العلامات. هذه العلامات يمكن رصدها عبر ملاحظة الطريقة التي يستخدم بها الفاعلون الاجتماعيون فضاءهم أو طرق تواصلهم مع بعضهم بعضاً داخل فضاء معين. ويركز بعض دارسي الفضاءات على القوة التعبيرية لفضاء معين من خلال المعاني التي ينتجها شاغلو فضاء اجتماعي معين أثناء تفاعلهم داخل ذلك الفضاء. ويمكن القول إن طرق التصرف والسلوك التي يتبعها الناس واختلافها من مكان لآخر، مثل اختلاف طرق التفاعل بين الناس في المول أو في حفلة زواج مثلاً، هي نتاج لوعي الفاعلين بكل فضاء وما يستدعيه ذلك الفضاء أو يسمح به من طرق لبس وتفاعل. وبناء على ذلك، فإني إذ أرى أن معرض الكتاب يشكل فضاء اجتماعياً مميزاً فإني أنطلق من ملاحظة كيفية تعامل الفاعلين الاجتماعيين (مركزاً على المتسوقين) مع المعرض كفضاء اجتماعي. وبهذا الحصر، فإني أرنو للكشف عن المعاني التي ينتجها زائرو المعرض عنه عبر ملاحظة طرق تفاعلهم مع الذات والأمكنة والفاعلين الآخرين. معرض الكتاب في الأساس سوق تجاري تباع فيه الكتب وتشترى. على هامش هذا السوق تقام أنشطة متصلة بالكتاب والمعرفة، من قبيل البرنامج الثقافي والمعارض والتغطية التليفزيونية المكثفة وتوقيع الكتب من قبل المؤلفين. لكني لاحظت أن الفاعلين من المتسوقين يتعاملون معه ليس بوصفه فضاءً لاقتناء الكتب فقط بل وأيضاً كمكان احتفالي. المتسوقون أكثر أناقة واهتماماً بمظاهرهم مما يبدون عليه في أسواق الرياض، يقضون أوقاتاً في التفاعل مع بعضهم بعضاً قد لا يقل عن الوقت المخصص للشراء، يتعرف بعضهم على بعض، يدخلون في حوارات ونقاشات. ويشكل تفاعل النساء مع فضاء المعرض أمراً لافتاً. إذ يبدو أنهن يشعرن فيه بأمان أكثر مما في الأسواق فتبدو تصرفاتهن أكثر ثقة وأقل خوفاً وحذراً. وكان لافتاً ليس فقط الاهتمام بالأناقة والمظهر بل وحتى تحويل المعرض إلى مهرجان نجومي، كما حصل في طلب التوقيع من بعض المؤلفين الذين عوملوا كنجوم الفن والرياضة. لم يكن المعرض مجرد سوق تجاري. لقد أنتجه الفاعلون، عبر أزيائهم وتفاعلاتهم، فضاءً اجتماعياً يُعلي من قيم الحرية الفردية ويسمح بهوامش من السلوكيات قد لا يُسمح بها في فضاءات أخرى في مدينة الرياض. كيف حدث هذا ولماذا؟ يتناول عبدالرحمن الحبيب، في مقاله الأسبوعي في جريدة الجزيرة الإثنين قبل الماضي، ظاهرة معرض الكتاب تحت عنوان «لماذا معرض الكتاب»؟ مستغرباً من ضخامة عدد زوار المعرض، أكثر من مليونين مقارنة بحوالي 300 ألف لأكبر معارض الكتاب في العالم، الذي هو معرض فرانكفورت. ويجيب على السؤال كاتباً: «ما جعل معرض الرياض له هذا الطابع الفريد يعود – في تقديري- إلى دعوات المقاطعة التي أدت إلى مزيد من الفضول للحضور. وحتى الكتب التي طولب بمقاطعتها أدت لترويجها بطريقة مذهلة نفدت مبيعاتها في اليوم الأول للمعرض الحالي، لا سيما أن الثقافة السعودية والكتاب السعودي يمران بحالة ازدهار. فدعاة المقاطعة رغم عددهم الضئيل يقومون بدور إعلاني مذهل ومجاني لإغراء الجمهور بالحضور». سآخذ التفسير الذي وضع الحبيب يده عليه لشرح الإقبال الكبير على المعرض، أي الدور الإيجابي لدعوات المقاطعة، إلى مدى أبعد، إلى دور دعوات المقاطعة، وما شابهها، في جعل الفاعلين (الزوار في هذه الحالة) ينتجون معاني عن المعرض أحالته لفضاء للحرية ولرقابة أقل على الزي والسلوك. لنتذكر أن المعرض كان وللسنوات الماضية عرضة لهجوم متكرر مع كل دورة. تُعد دعوات المقاطعة هينة لينة مقارنة بالخطاب الأكثر شراسة في السنوات الماضية، التي قصدت توصيف المعرض بوصفه مكاناً «للاختلاط المحرم» وبيع «الكتب التي تنشر الانحرافات» وما شابه ذلك من تصاوير سلبية. الغريب والمفاجئ في الأمر أن هذه الدعوات لم تزد الإقبال على المعرض فقط، بل وحتى دفعت الفاعلين إلى المثابرة على إنتاج معانٍ ودلالات للمعرض كفضاء اجتماعي تتوافق مع مخاوف المحذرين. الخطاب المتوجس من معرض الكتاب دفع زواره إلى إنتاج صور ذهنية عنه تتوافق مع مخاوف المحذرين من ناحية وتتوافق في الوقت نفسه مع تطلعات هؤلاء الزوار وتصوراتهم عن ما يجب أن تكون عليه فضاءات التسوق والمتع العائلية من ناحية أخرى. لقد بث أعداء المعرض عنه نظاماً من العلامات ظنوا بأنها سلبية وأنها كفيلة بصد الناس عنه؛ فإذ بنا نتفاجأ بأنهم دفعوا الناس لزيارة المعرض من ناحية وللمثابرة على إنتاج ذات العلامات المُحذر منها من ناحية أخرى. نتيجة غير متوقعة وجديرة بالتأمل.