انتهى معرض الكتاب بمسرحية غير متوقعة، وكنت قد كتبت الأسبوع الماضي أن معرض الرياض الدولي للكتاب جاء هذا العام قوياً هادئاً واثقاً ومريحاً، وتحدثت عن أهم العوامل المؤدية إلى هدوئه وهو نجاح إدارة المعرض والجهات الرسمية في ضبط مسألة الاحتساب التي كانت تثير في الغالب جواً من التوتر والتشنج والرعب لدى زوار المعرض وزائراته، والحقيقة أنني لمست بنفسي وشاركني عدد كبير من الزملاء إيجابية هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأفرادها في أداء عملهم داخل المعرض، إذ كانت الابتسامة والكلمة الطيبة والنصيحة بالحسنى شعاراً لهم، وكان خطابهم هادئاً ودوداً ومؤثراً جداً في نفوس الجميع. وهذا جهد مشكور ونمط من العمل التوعوي نعتز به وندعو إلى تطويره والحفاظ على مستواه ليس في المعرض فحسب وإنما في كل مجالات التوعية الشرعية والدينية. لم يستمر هدوء المعرض إلى نهايته؛ ففي آخر أيام المعرض قام الدكتور يوسف الأحمد ومعه ثلة من الشباب بزيارة المعرض، وقام بمناصحة بعض رواد المعرض من النساء والرجال كما نقلت صحيفة «الشرق» وغيرها، وأثار هذا الموقف من الشيخ الأحمد ردود أفعال متباينة، وفي مسرح آخر لدراما الاحتساب نشرت الصحف وقنوات التواصل أخباراً وصوراً عمّا سمّي (مداهمة فندق مداريم كراون) الفندق الذي يقيم فيه ضيوف المعرض الرسميون من المثقفين والمثقفات السعوديين والعرب، ونقلت الأخبار أن مجموعة من المحتسبين حضروا إلى الفندق وتداخلوا في محاضرة الدكتور ناصر الحجيلان وكيل الوزارة والمشرف على المعرض، حول الاختلاط في المعرض والفندق ووجود كتب الإلحاد بين معروضات الناشرين، ثم خرجوا إلى بهو الفندق وحصل تجاذب بينهم وبين عدد من المثقفين والمثقفات حول القضية ذاتها وهي الاختلاط وكشف الوجه، القضية التي تبدو أنها أهم قضايانا وأكثرها خطراً ومصيرية في هذا البلد! ما كنت أريد أن أضيفه هذا اليوم حول أسباب هدوء المعرض إضافة إلى تنظيم عملية الوعظ والإرشاد، هو النمو الواضح في وعي غالبية مرتادي المعرض، من الاتجاهات والملامح كافة، غالبية زوار المعرض منغمسون في التنقل بين أجنحة الناشرين باحثين عن الكتب والعناوين التي يريدونها، هناك من يوقع ومن يتحدث مع زملاء أو أصدقاء ومن يصور ويوثق ويُجري حوارات وتغطيات وتقارير صحفية. في طمأنينة بعيدة عن التوتر والشحناء، وقد شاهدتُ بعض طلاب العلم يأمر بالعرف وينصح بالحسنى في أكثر من موقف دون ضجيج ولا تجمهر. هذا الوعي الإيجابي الجميل هو أحد أقوى عوامل نجاح المعرض الذي زاره أكثر من مليوني زائر خلال أيامه العشرة. الشيخ يوسف الأحمد كان يمكن له أن يحضر للمعرض ويمارس ما يراه واجباً شرعياً من النصح بالحسنى دون أن يصطحب معه سريّة الفتية المحيطين به، فلا أظن الموقف يستدعي حملة تذكرنا بما كان يصنعه بعض الشباب -أصلحهم الله- في الأعوام الماضية حين يصطحبون بعض المشايخ الكبار علماً وسناً ويمرون بهم على أجنحة الناشرين لوعظهم والإنكار عليهم، في صورة لا تليق بجلال علمهم ووقار عمرهم. طبيعة الممارسات والتجمعات البشرية أن توجد فيها بعض المخالفات التي لا يصح لنا أن نعممها على الجميع، والتعميم جائر غالباً، ومن «قال هلك الناس فهو أهلكهم» كما في الحديث الشريف، ونحن حين نشير إلى قضية ما لا نعني أن هذه الممارسة أو تلك تشكل ظاهرة غالبة على اتجاه أو آخر، بل نناقشها في حدودها ووفق سياقها الذي لا يتعدى إلى سواه. فليس كل طلاب العلم هم من المتشددين، وليس كل المثقفين من المنحرفين، والانحراف عن الطريق السوي موجود لدى هؤلاء وأولئك على السواء. معرض الكتاب في الرياض، وما يحيط به من نقاشات وجدل وتجاذب في وسائل الإعلام ومواقع التواصل، يقدم لنا صورة مختزلة لواقع مجتمعنا المحلي، باتجاهاته وأفكاره، تقودها عادة مجموعة من رموز كل اتجاه، وينقاد خلفهم أرتال من الأتباع والمريدين الذين يعتنقون هذا القول أو ذاك، لا لشيء إلا لثقتهم في فكر فلان من القادة أو النجوم الذين يمثلون اتجاهاً أو آخر. ومن مكاسب معرض الكتاب السنوي أنه يوجِد النقاشات ويفتح النوافذ لمقاربة صورة المجتمع الفكرية والثقافية والاجتماعية، من خلال عشرة أيام هي اختزال كثيف ودقيق إلى حد كبير لصورة المجتمع وحراكه الثقافي العام. يحاول كثير ممن يتعاطى مع الشأن الثقافي والديني العام أن يقسم المجتمع –بإصرار حاد- إلى فسطاطين لا ثالث لهما؛ يجعل الأول تحت لواء المتدينين وحاملي التوجه الديني المحافظ، ويُقصي عنه بقية أفراد المجتمع الذين هم متدينون ومحافظون ولكن دون أدلجة أو تعصب ما. ويتمثل الثاني في المثقفين والكتاب الذين يوسمون في الغالب بالليبرالية والعلمانية والدعوة إلى تحرر المجتمع والمرأة على وجه التحديد. ويغيب من بين الطرفين السواد الأعظم المتمثل في أصحاب الخط الوسطي الذي يمثل فكره المستقل ولا ينتمي إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فهم متدينون بلا تشدد، ومثقفون بلا تحرر. تكريس فكرة الفسطاطين حملت المجتمع على تصديقها والشعور بحقيقة وجودها وتأثيرها في جميع الممارسات الفردية والجمعية، إذ قبل أن تناقش الفكرة يبدأ البحث عن تصنيف صاحبها، وتحديد اتجاهه الذي ينتمي إليه، بحيث يُسقطه الطرف الآخر ويُلغيه، ولا يتعامل معه إلا من خلال الصورة النمطية المسبقة التي تكرست عنه. ونشأ بين هذين الفسطاطين نمط من التعاطي قائم على الاستفزاز والتحرش، لا يضيّع أحدهم فرصة لإغاظة الطرف الآخر دون اغتنامها واستغلالها إلى أقصى حدودها.. كثير مما يحصل في معرض الكتاب وسياقاته يندرج –حسب تقديري- تحت هذا النمط الاستفزازي الغالب لدينا.. ونكمل الأسبوع القادم بحول الله تعالى.