لم يكن رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، بحاجة إلى جرعة إضافية من الصداع الذي تعاني منه تركيا في الآونة الأخيرة بسبب الأوضاع في المنطقة، ليرتكب جيشه خطأ فظيعاً أدّى إلى قتل مجموعة من المواطنين الفقراء، الذين يعيشون على تهريب بعض السلع الضرورية من العراق إلى المناطق المحاذية في الداخل التركي، التي تعاني منذ عقود من التنمية المنسية؛ نظراً للمعارك الطويلة بين حزب العمال الكردستاني والسلطة المركزية في أنقرة، ولتضطر الدولة التركية إلى الاعتراف بالقتل الخطأ، والإعلان عن تعويض أسر الضحايا. هذا الخطأ وإن كان عابراً ويمكن لدولة كبرى في المنطقة أن تعالجه وتلملم تبعاته، إلا أنه قد يؤثر على التحركات التي تمارسها القيادة التركية في إعادة رسم الدور الذي تراه لبلادها، وسط غبار الربيع العربي والرمال المتحركة التي تشهدها الدول المحاذية لتركيا. تحلم تركيا منذ الحرب العالمية الثانية، التي وضعت أوزارها في عام 1945، بأن تكون جزءاً من النسيج الأوروبي، معزّزة ذلك بخطوات التحديث الأتاتوركية التي شطبت قروناً من الثقافة الإسلامية العميقة لصالح الثقافة الغربية، بما فيها الحروف العربية التي استبدلتها علمانية أتاتورك إلى الحروف اللاتينية. هذا الحلم قابله انقسام أوروبي إزاء مسألة قبول عضوية الدولة الإسلامية في النسيج المسيحي، ورأت بعض دول الاتحاد ذلك خطراً على أوروبا، وذهبت أخرى إلى أن انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي قد يفتح أبواب صراع الحضارات؛ بما يزيد من حجم التوتر داخل أوروبا نفسها. لكن الحزب الحاكم في تركيا «حزب العدالة والتنمية»، لم يأتِ إلى السلطة بعد هذا الصراع الطويل المحمّل بتضحيات جسام، لكي يستكين إلى هواجس بعض دول الاتحاد المتخوفة من عودة الدولة العثمانية، التي خبرتها بعض دول منطقة البلقان. فقد كانت المحاولات التي قامت بها الحكومات التركية المتعاقبة تواجه عراقيل كثيرة، وأهمها عندما تقدمت أنقرة بطلب انضمام للجماعة الأوروبية (الاتحاد الأوروبي) عام 1987، وفي عام 1995 وقعت اتفاقية اتحاد جمركي، وفي العام 1999 ثبّتت تركيا رسمياً نفسها كمرشح للعضوية الكاملة للاتحاد الأوروبي، الذي بدأ في عام 2005 مفاوضات انضمام أنقرة له، ولم يتوصل الطرفان إلى خلاصات تريح الساسة الأتراك، رغم جدية حزب العدالة والتنمية، الذي وصل إلى السلطة عام 2002، وبدأ بتغييرات جوهرية في الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في تركيا، وفي المقدمة منها إبعاد الجيش عن مراكز اتخاذ القرار السيادي، وتحسين العلاقات مع كل من اليونان وقبرص، في خطوات تطمينية لدول الاتحاد الأوروبي التي ترى في أنقرة عنصر عدم استقرار مع جاراتها الأوروبيات. ولم تتوقف حكومات حزب العدالة عند هذا الحد، بل إن العلاقات مع الكيان الإسرائيلي شهدت استقراراً وتطوراً، خصوصاً في الحقل العسكري والأمني، بالرغم من الخلافات الأخيرة التي حصلت على خلفية الهجوم الإسرائيلي على أسطول الحرية المبحر إلى قطاع غزة. إن سر تمسك تركيا بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي (27 دولة)، يتمثل في الحجم الهائل للسوق الأوروبية والعلاقات التاريخية بين الجانبين؛ إذ يبلغ حجم التبادل التجاري بين الجانبين أكثر من مائة مليار دولار، وهو رقم فلكي إذا ما قورن بحجم التبادل التجاري بين تركيا والدول الأخرى. فحسب العديد من الإحصائيات، يبلغ حجم التبادل التجاري بين تركيا ودول مجلس التعاون الخليجي نحو عشرين مليار دولار في عام 2010، يميل ميزانها لصالح أنقرة، التي تصدّر نحو 15 مليار دولار لدول المجلس، مقابل واردات منه تصل إلى خمسة مليارات دولار، فيما يصل التبادل مع مصر إلى أربعة مليارات دولار، وسورية ثلاثة مليارات دولار مرشحة للفقدان؛ بسبب الأزمة في دمشق، ونحو ثمانية مليارات دولار مع إيران. ومن المهم الإشارة هنا إلى أن حجم الصادرات التركية قد نمت لتصل إلى 135,5 مليار دولار في عام 2011، بنسبة نمو تصل إلى %18 مقارنة مع عام 2010. وتطمح تركيا إلى زيادة حجم التبادل التجاري بينها وبين العالم الإسلامي، حيث تصل هذه النسبة في الوقت الراهن نحو %25، وحجمه بين الدول الإسلامية لا يتجاوز %17؛ الأمر الذي قاد القيادة التركية إلى دعوة الدول الإسلامية لزيادة هذه النسبة، خصوصاً أن نسبة التبادل التجاري بين دول الاتحاد الأوروبي تصل إلى %75. إن تركيا ذات ال74 مليون نسمة، وموقعها الجغرافي المهم، مشدودة نحو مشروعين قد لا يكونان متعارضين «الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وتنمية علاقاتها بدول الشرق الأوسط وركيزتها الدول العربية والإسلامية». ويبدو أنها تسير وفق معادلة محسوبة؛ بحيث تقوي اقتصادها وحضورها السياسي في المنطقة العربية، وتسعى إلى تقديم أنموذج حضاري عن نوايا تركيا في حال الوصول إلى عضوية الاتحاد الأوروبي. وبين هذا التوجّه وذاك تنغمس تركيا في الصراعات الداخلية لدول الإقليم، وهو رهان قابل للربح والخسارة، بناء على النتائج التي ستخلص إليها هذه الصراعات. لكنها في كل الحالات لن تتخلّى عن حلمها في عضوية الاتحاد الأوروبي، إن لم يكن جزءاً مما تلعبه من أدوار إقليمية يشكل جسر عبور لعضوية القارة العجوز.