تأملت بعد قراءة سير الناجحين والمؤثرين في الحياة ومعرفة بعضهم ممن عرفناهم وصاروا رموزاً في جيلهم ونجوماً في مجتمعاتهم ،فوجدتُ أن هناك صفات تجمعهم ،جعلتهم محل الريادة ،وفي مقعد القيادة ،في مواهبهم وتخصصاتهم فمن ذلك الهمة العالية ،فإنها صفة يشترك فيها جميع هؤلاء البارعين ،ومن خلا منها فلا حظّ له في الصدارة ، فتجد الواحد من هؤلاء الأفذاذ يشتعل حماساً وهمةً وإقداماً، وتجده وهو جالس معك في صدره عزيمة تمر مرّ السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء، فتجده لا حد لهمته فكلما ظفر بمراده انتقلت روحه إلى التفكير في مراد أعلى، يعني أنه لم يضع نقطة في طريق سيره يقف عندها، بل الطريق مفتوح أمامه للأبد فإن كان عالماً تجده إذا أحكم فناً انتقل لفنٍ آخرثم تجده لا يكتفي بمعلومات عامة عن هذا الفن، بل يغوص ويتعمّق ويجدد ويبتكر حتى يأتيه الموت ،وهو في طلب العلم حتى إن بعضهم كأبي يوسف القاضي وأبي الريحان البيروني تشاغلا بحل مسائل علمية قبل سكرات الموت بدقائق فحيّا الله الهمم وعاشت العزائم، وإن كان تاجراً تجده يرسم مشاريع كبرى يعجز عنها الألوف من الناس العاديين ،وكلما نجح في مشروع بدأ بآخر خاصة أن من هؤلاء التجار الكبار من نفع وطنه وأمّته بمؤسسات الخير والنماء والتجارة فصار نجاحه نجاحاً للمجتمع بأسره وأعرف بعضهم جاوزالثمانين، وإذاجلست معه وجدته يخطط لمؤسسة كبرى أومجمّع عالمي تجاري أو بنك استثماري وهكذا، وإن كان كاتباً وجدته يمسك قلمه في الثمانين كأنه في العشرين يصول ويجول كاتباً وشارحاً وناقداً وملخّصاً ومؤلّفاً لا يلقي قلماً إلا ساعة الموت، وإن كان عابداً فتجده كل يوم أشد عزيمة وأقوى همّة من اليوم الذي قبله فهو ما بين فريضة مؤداة ونافلة مسنونة وفعل خير مشروع، ثم تجده يفكّر بعمل صالح يجري عليه بعد موته، ومن الصفات التي تجمعهم صفة الاستمرار والدأب والمواصلة فكل واحد من هؤلاء الناجحين لا يعرف الانقطاع والإجازة بل عمله طيلة عمره في تقدّم مستمر وعمل متصل ليس لديه تردد ولا توقف ولا تنقل مزاجي في التخصصات والفنون بدون تخطيط أو دراسة. ويجمع الناجحين أيضاً صفة العلاقات المتميزة مع الناس فهؤلاء الكبار الرّواد يجيدون فن التعامل مع الناس وقد ذكر مثل هذا صاحب كتاب (الفوز مع الناس) مايكس ويل ولا يكون الواحد منهم متميزاً حتى تكون صلته بمن حوله راقيةً ممتازة فيكسب قلوب البشر ويصنع صداقة عميقة مع بني جنسه ويمد جسورالمحبة والإخاء مع مجتمعه فتجدهم يشاركونه فرحة النجاح ولذة الظفر بمطلوبه ؛لأنه كسب ودّهم وظفر بحبهم ولن تجد الكريه البغيض الشريرالعدواني رائداً ولا ناجحاً ولا محبوباً . ومن صفات هؤلاء الناجحين أنهم يتركون آثاراً تدل على أعمالهم وبصمات تشهد بإنجازاتهم وليسوا كملايين البشر العاديين الذين يمرون على الحياة لا تحسّ منهم من أحد ولا تسمع لهم ركزاً، بل كل رائدٍ متفرّد من هؤلاء هو حديث أهل طبقته وأهل تخصصه وأهل فنّه وهو إمام عندهم في هذا الباب سواءً كان هذا الباب علماً أو فكراً أو شعراً أو كتابةً أو تجارةً أو منصباً ونحوه، فأنت إذا سألت سكان دولة أو أهل بلدة أو منسوبي جامعة عن الرموز الرّواد في أي تخصص أو باب، قفزت إلى أذهانهم مباشرة أسماء هؤلاء الرواد وقد زرتُ دولاً كثيرة فأجد في بعض شوارعها وعلى مداخل مدنها صور هؤلاء العظماء عندهم مثلما وجدت في جاكرتا زعماء الاستقلال في إندونيسيا عبر تاريخها وفي الهند تقابلك صورة غاندي والمحاربين القدامى عبر ولايات الهند وفي أمريكا تجد في ولاية إنديانا صور وخطابات الرئيس إبراهام لنكولن وغيره من روادهم وإذا جلسنا مجلساً في أي دولة عربية أو إسلامية أو غيرها فتحدّثنا في العلم أو الكتابة أو السياسة أو الخطابة أو التجارة بادر المجلس بأسماء نجوم هذه الدولة في كل فن عبر تاريخهم . ومن صفات هؤلاء الناجحين أن الواحد منهم صار مدرسةً في فنّه أو تخصصه أو عمله وصار له طلابٌ ومريدون يحذون حذوه ويقتدون به في طريقته وأسلوبه وتعامله حتى عُرفوا بأتباعه وتلامذته فيما برع فيه من علم أو موهبة أو فن أو تخصص، أما العاديون فليس لهم امتداد ولا مدرسة ولا أثر؛لأنهم لا يحفرون أسماءهم في ذاكرة الجيل بإبداعهم وتفوقهم فمروا كما يمرملايين البشر،لا عين ولا أثر، ولا ذكر ولا خبر، وتجد هؤلاء الرواد والناجحين يعيشون حياتهم في ثقة واطمئنان في الغالب فتجد الواحد منهم سوياً في فكره معتدلاً في مزاجه وسطياً في حياته طبيعياً في تعامله يعيش حياته في يسر وانتظام بخلاف الفاشلين الراسبين أوالطائشين المتهوّرين. فهؤلاء الناجحون يتصرّفون بعقل راشد وخطوات مدروسة وليس عندهم ارتجالية أو حالة طوارئ مفاجئة، بل كأنهم حسبوا لكل شيء حسابه وأعدوا لكل أمرٍعدّته كما قال تعالى: (وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّة)، فكأن الواحد منهم من صغره رسم هدفاً في ذهنه فهو يسعى لتحقيقه ليل نهار كأنه يرى هذا الهدف أمامه في لوحة كبرى على طريق مستقيم يمشي إليه مشياً ويرى هدفه يقترب منه كل يوم فهو على بصيرة من أمره وثقة من ربه ويقين من نجاحه مع روح الأمل والتفاؤل التي تجمع هؤلاء الناجحين فهم أهل بشرى لا يعرفون الإحباط والفشل والنقوص ولا يعترفون بالهزيمة أبداً.