في نقد المقالين الأخيرين، أُسمعت من محبين لي ومشفقين عليّ، كلاماً لترتعد من هوله قلوب الرجال، فأي وعيد أشد من قول أنك تحت مرمى النار وما عليك إلا انتظار الإطلاق. لكن يا قوم أين أنتم من مقالَيّ الأول والثاني اللذين اتُّهمت فيهما بمحاباة وزارة الخارجية ومجاملة مسؤوليها؟! كنت قد قلتها سابقاً وسأقولها حالاً وآخراً، بأني ما أقوم به في هذه السلسلة هو تحليل قائم على منهجية علمية وطريقة بحثية. ولا أصور نفسي وأنا أقوم بهذا التحليل، سوى بذاك الرجل السائر على الجادة بين برحتين أو ضفتين، فيصف ما يراه يمنةً ويسرةً دون زيادة أو نقصان، ثم يقوم بربط تلك التصورات في عقد منظم ورؤية محددة حتى يقف القارئ على حقائق الأشياء كما هي. وإلى جانب مقتضيات التحليل كما أشرت، فإني أنطلق من نظرتي للأمور من نظرية إيجابية وأحياناً وردية، وتأسيساً على الأمر الإلهي بأن لا يُكتم العلم عن الناس، واتباعاً للتوجيه النبوي حينما تعوذ من علم لا ينفع، وإقراراً لقول الإمام الشافعي: إن كان الجاهل يجهل والعالم يصمت، فمتى يعلم الناس؟ وقوله الآخر: إن زكاة العلم نشره. وتصديقاً لكلام إمامنا العادل خادم الحرمين الشريفين -أدامه الله- وتنفيذاً لكلام سمو وزير الخارجية الذي أشرت إليه في المقال الثالث. إني أراهن على العقلاء دائماً، وبعد هذا كله، إن أتى أحدهم واستوطأ حائطي، واستطعم لحمي واستعذب دمي، لأني كالواقف بالعراء بانتمائي لجماعة عدم الانحياز ولست منضوياً تحت أي لواء أو محسوباً على أي طرف، فإني أبلغه بأني سأقول هاهنا كلمتي بما يمليه عليّ ضميري وأقفل الدكان، وبعدها من يشعر أنه بلا خطيئة ويُرِد أن يرميني بحجر فليرمِي، ويبوء بإثمي وإثمه، ولأكن عبدالله المقتول لا عبدالله القاتل. ولأعود إلى ما انتهيت إليه في المقال السابق، عن إيجابيات وسلبيات المرشحين لمنصب سفير من خارج دبلوماسيي ديوان وزارة الخارجية. فأزيد بالقول إن لهذا التوجه بعض المردودات السلبية الأخرى، التي من أهمها الاستسهال والاستمراء الذي حصل عند بعضهم لمنصب السفير، وأصبح بعضهم يصرحون بتطلعهم وأملهم أن يترشحوا لهذا المنصب رغم عدم انتمائهم لوزارة الخارجية وعدم وجود ما يؤهلهم علمياً لهذا المنصب. وهؤلاء الأشخاص معروفة سيماهم من خلال ترددهم الدائم بدعوة أو غيرها على اللقاءات المعرفية أو الاحتفالية لوزارة الخارجية، وبذلهم الدائم للتقرب من أصحاب القرار في وزارة الخارحية، وسعيهم الحثيث إلى أن يدخلوا تحت دائرة اهتمامهم، أو ادعائهم بأنهم كانوا في يوم من الأيام ممثلين دبلوماسيين للبلاد رغم عدم انتمائهم لوزارة الخارجية وظيفياً! وإن كان نظرياً من حق أي شخص أن يحلم بالوصول لهذا المنصب الرفيع وهذه الثقة الغالية التي هي في الأساس هدف لكل دبلوماسي في وزارة الخارجية، لما يتحلى به هذا المنصب من رومانسية زاهية ورونق جميل، إلا أن هذه الرغبات المتكررة أمست مزعجة للدبلوماسيين الذين تكرعوا الدبلوماسية منذ أن كانوا شباباً يافعين، وهم يشاهدون غيرهم يقفزون أمام المسؤولين علّهم يحظون بنظرة رحيمة تصيبهم. وبعض هؤلاء المتطلعين من حقق نجاحات في مجالات عمل أخرى، ويتصور أنه لم يبقَ له إلا منصب سفير كي يضاف إلى سجلات نجاحاته، فيأتي ليزاحم الدبلوماسي بحلمه الأوحد. يعني مثله كمثل الذي ذكرت قصته في القرآن، صاحب التسع والتسعين نعجة، الذي سأل صاحب النعجة الوحيدة التي لديه، وعزه في الخطاب أيضاً!! إلا أن تلاميذ المدرسة الدبلوماسية السعودية التي يقودها الأمير سعود الفيصل، قادرون على أن يسوّوها على الوجه الأكمل. وأعرّج إلى قضية أخرى، وهي توجه وزارة الخارجية الإيجابي بعدم التمديد للسفراء في البلدان التي قضوا فيها المدد المقررة لهم سلفاً. ففي العهود السابقة كان يقضي بعض السفراء مدداً طويلة في بعض البلدان تصل إلى العقد وأكثر!! وهذا بلاشك أمرٌ سلبي على مصالح المملكة ومقاصد المؤسسة الدبلوماسية السعودية. فالسفير في نهاية المطاف بشر. وهو أرسل ليمثل بلده ويدافع عن مصالحها ويرعى مواطنيها، فإن بقى أكثر مما هو مقرر فإنه قد يقع المحذور، وهو أن لا يُعرف إن كان هذا السفير بالفعل يعمل لصالح بلاده أم لصالح بقائه في البلد التي هو يوجد فيها. زِد على ذلك، فإن بقاء سفير ما في بلد معين أكثر من مدته، فيه تمييز له عن غيره وتضييع الفرصة على زملائه السفراء الآخرين في العمل في تلك البلد، خصوصاً إن كانت من البلدان ذات الجودة العالية معيشياً وأمنياً. هذا الأمر مثل الجلطة التي تحصل في الجسم أحياناً فتوقفه في منطقة معينة قد تعيق الحركة الدبلوماسية كلها من أجل شخص بعينه. والأمر الآخر الذي بدأت الخارجية في معالجته، هو إحالة السفراء إلى التقاعد بمجرد وصولهم إلى السن القانونية. بيد أن الحال في السابق كان غير ذلك، فبعضهم لا يريد أن يغادر ذاك المنصب، فيتوسل بكل ما أوتي من معارف ويتشفع بكل ما أوتي من أعذار حتى يبقى في منصبه، فوق سن التقاعد وأحياناً لسنين طويلة!! وهذا من وجهة نظري، ضرره أكثر من نفعه، خصوصاً إن كان على رأس سفارة في الخارج. إذ أن هذا الأمر فيه أيضاً إجحاف في حق سفراء آخرين ينتظرون فرصتهم في خدمة البلاد خارجياً.