منتصف الشهر الماضي، دعا مستشار الأمن القومي الأميركي جيمس جونز الى اجتماع طارئ حضره كبار المستشارين في العهود السابقة بينهم: زبيغنيو بريجنسكي وبرنت سكوكروفت وفرانك كارلوتشي وروبرت ماكفارلن. وتركز الحديث حول فشل «مشروع الدولتين لشعبين»، وما إذا كان من الأفضل للإدارة إملاء خطة أخيرة مستندة الى نقاط متفق عليها بين الطرفين. وفي وسط النقاش، دخل الرئيس أوباما الى مكتب مستشاره، وجلس يصغي الى الجدل القائم حول تأثير نزاع الشرق الأوسط على مصالح بلاده. واستوقفه التحليل الذي قدمه بريجينسكي، وفيه يقول: «قبل أكثر من ثلاثين سنة صرح موشيه دايان بأنه يفضل شرم الشيخ من دون سلام ... على السلام من دون شرم الشيخ. ولو انتصر هذا الرأي، لكانت مصر وإسرائيل في حال من النزاع الدائم. والمؤسف، أن نتانياهو يكرر الخطأ ذاته عندما يقول إنه يفضل القدس الكاملة من دون سلام... على السلام من دون القدس الكاملة». عندئذ تدخل أوباما ليسأل عن الحل المطلوب لتحريك عجلة السلام. واقترح الحاضرون قيام الرئيس بخطوة درامية تاريخية تبدأ ببلورة مشروع سلام... وتنتهي بإعلانه في «الكنيست» الإسرائيلي والمجلس التشريعي الفلسطيني بحضور أعضاء الرباعية. ومثل هذه الاستراتيجية الاقتحامية يمكن أن تخلق الزخم السياسي والنفسي المطلوب، خصوصاً بعدما صرح وزير الدفاع إيهود باراك بأن التهديد الأكبر لمستقبل إسرائيل لا يتمثل بالقنبلة الإيرانية، بل بفشل مشروع الدولتين! الجنرال جونز عارض فكرة حشر نتانياهو وإحراجه، لاعتقاده أن مهمة جورج ميتشل لم تسقط بعد، وبأن الرئيس محمود عباس قد يستغل التشدد الأميركي لرفع شروطه. لذلك اقترح تمديد موعد الإعلان عن مبادرة جديدة الى شهر تشرين الثاني (نوفمبر)، أي الى موعد انتخابات الكونغرس بحيث يطرحها كجزء من برنامج الحزب. ويبدو أن معركة عض الأصابع بين أوباما ونتانياهو قد أثارت اهتمام رجال الإدارة منذ وصف رئيس وزراء إسرائيل الولاياتالمتحدة بالدولة الغريبة التي لا يجوز الوثوق بالتزاماتها. وكان ذلك أثناء الاحتفال بيوم الاستقلال. فإذا بنتانياهو يفاجئ حلفاءه الأميركيين باقتباس عبارة تيودور هرتزل الذي نصح اليهود بألا يثقوا بالغرباء، وإنما عليهم الاعتماد على أنفسهم فقط. وعلى ضوء هذه العبارة الاستفزازية احتدم الجدل على صفحات الجرائد لأن «إيباك» شجعت المنتسبين إليها على شن حملة إعلامية هادفة ضد سياسة أوباما. ودشن هذه الحملة الثري اليهودي رون لاودر بنشر إعلانات يدعو فيها الرئيس الى وقف ضغوطه على إسرائيل. وساعده في حملة التضليل إيلي فيزل الحائز جائزة نوبل الذي نشر مقالة في شكل إعلان مدفوع في أربع صحف كبرى يحض فيها الإدارة على ضرورة إرجاء المفاوضات في شأن مستقبل القدس. وكان من الطبيعي أن يتصدى لهذه الحملة مستشار جورج ميتشل السفير السابق لدى إسرائيل مارتن انديك. فقد كتب مقالة في جريدة «نيويورك تايمز» لخص فيها موقفه بالقول: إذا كانت إسرائيل قوة عظمى لا تحتاج الى المساعدة الأميركية، فلتتخذ إذن قراراتها وحدها. ولكن، إذا كانت محتاجة للدعم الأميركي، فإن عليها احترام مصالح الدولة الداعمة! ونشرت جريدة «واشنطن بوست» مقالة لمستشار جيمي كارتر السابق زبيغنيو بريجينسكي، اقترح فيها فرض خطة سلام مبنية على ترتيبات تسوية 2002. وربط في سرده بين النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي وبين مختلف مشاكل الولاياتالمتحدة في المنطقة، بدءاً بالخلاف مع إيران... وانتهاء بالمواجهات مع الأصولية الإسلامية. ولما بلغت المنازلة الكلامية هذا المستوى من العنف والحدة، قام الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز بنقل إشاعة صواريخ «سكود» الى الرئيس ساركوزي، بهدف تحويل الأنظار عن استفزازات نتانياهو، وإلهاء الرأي العام الأميركي بخطر صواريخ «حزب الله». وواضح من ردود فعل الإدارة الأميركية أنها سارعت الى تبني موقف إسرائيل واتهاماتها قبل التأكد من صحتها. وراحت تتعامل معها كأمر واقع في حين أعربت دمشق عن دهشتها من تحذيرات واشنطن لها. وقالت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون أنها تسعى الى تعميق علاقاتها مع سورية على رغم المخاوف من أن تكون دمشق نقلت صواريخ «سكود» الى «حزب الله». ولمحت في أحد تصاريحها الى: احتمال وقف الحوار مع دمشق إذا تبين للرئيس أوباما أنها قامت بنقل صواريخ «سكود» الى «الميليشيا الشيعية». والدليل على شكوكها حول هذه العملية، أن المتحدث باسمها فيليب كراولي أعلن أن بلاده لا تستطيع التأكد ما إذا كانت عملية نقل صواريخ «سكود» قد جرت فعلاً! في المقابل، ردت سورية باتهام الإدارة الأميركية بتبني مزاعم إسرائيل، وأعربت على لسان الوزير وليد المعلم عن أسفها لخضوع أوباما لموجة التضليل التي افتعلتها حكومة نتانياهو من أجل تبرير اعتداءاتها على الجنوب. وكان رئيس وزراء إسرائيل قد دخل على خط المناورة الإعلامية معرباً عن قلقه مما يحدث في الجنوب، ومكرراً ادعاءات الرئيس بيريز من أن تدفق الأسلحة من سورية الى «حزب الله» ما زال مستمراً، واختتم مزاعمه بالقول: «نحن لا نريد الحرب... ولكن هذا الأمر غير مقبول». خلال جلسة استماع في الكونغرس، قال مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط جيفري فيلتمان، إن بلاده مستعدة لدراسة كل الأدوات المتوافرة لجعل سورية تصحح هذا العمل. وذكر في تعليقه على إشاعة نقل صواريخ «سكود» الى الجنوب، أن المعارضة في الكونغرس وجدت في الاجتماع الثلاثي الذي عقد في دمشق بين الرئيسين بشار الأسد ومحمود أحمدي نجاد والسيد حسن نصرالله، دليلاً ضد سياسة الانفتاح التي تمارسها إدارة أوباما مع سورية. وبما أن فيلتمان خدم كسفير لبلاده في لبنان، فقد غلف تصريحاته ببعض الإشارات السياسية الهادفة كقوله: «لو كنت لبنانياً، فإن هذا اللقاء يشكل لي مصدر قلق». وكان يعني أن وجود السيد حسن نصرالله مع رئيسي إيران وسورية، قد أعطى الأمين العام ل «حزب الله» صفة رئاسة لبنان للشؤون الأمنية، الأمر الذي يجعل من حدود إيران حدوداً متصلة بالجنوب اللبناني. ويُستدل من مسلسل الأحداث أن إسرائيل لم ترتح الى تعيين سفير أميركي في دمشق بعد قطيعة دامت خمس سنوات تقريباً. وكان وليم بيرنز، مساعد وزيرة الخارجية، قد زار دمشق والتقى كبار المسؤولين بهدف تدشين عهد جديد من العلاقات بين البلدين. وعقب عودته الى واشنطن بأسبوع واحد، استضافت دمشق القمة الثلاثية (الأسد ونجاد ونصرالله)، الأمر الذي أثار حفيظة الجمهوريين في الكونغرس، ودفعهم الى طلب تجديد القطيعة. وحجتهم أن الانفتاح من دون شروط ملزمة، عزز شعور الدولة السورية بأن معارضة سياسة أميركا هي المدخل الى الحوار والتفاهم! في حين يرى مؤيدو الانفتاح أن عزل سورية سيقربها أكثر من إيران، ويفتح قنوات ديبلوماسية بديلة تتجاوز السفير السوري في واشنطن عماد مصطفى، الذي تتهمه إدارة أوباما بعدم التعاون. ويؤكد تحليل نشرته مجلة «فورين بوليسي» أن سورية لم تتوقف عن تزويد «حزب الله» بالصواريخ والأسلحة. وفي أكثر من مناسبة اعترف قادة الحزب بأنهم يملكون ترسانة صواريخ يزيد عددها على 30 ألف صاروخ. ولكن مجلة الدفاع البريطانية «جينز ديفانس» تحدثت عن إمداد «حزب الله» بصواريخ (أم – 600). وهي نسخة عن الصواريخ الإيرانية (فاتح – 110) التي يصل مداها الى 250 كلم. وفي مطلع الشهر الماضي، أبلغ الجنرال الإسرائيلي يوسي بايدتز، لجنة الدفاع في «الكنيست»، أن سورية زودت «حزب الله» بأنظمة «ايغلا – اس مان» المحمولة على الكتف. ولكنها قادرة على إصابة طائرات الاستطلاع والمروحيات. وعقب تعيين فورد سفيراً في دمشق، ترددت في واشنطن إشاعات عن نقل سورية صواريخ من نوع «سكود – دي» الى جنوب لبنان. ولم تحدد التقارير ما إذا كانت هذه الصواريخ روسية الصنع أم هي نسخ مطورة من نموذج «سكود» القديم الذي تصنعه سورية. وفي وسع هذه الصواريخ إصابة أهداف على بعد 700 كلم وحمل رؤوس جرثومية وكيماوية. ويقال في هذا السياق إن سورية أرسلتها الى «حزب الله» عندما هددتها إسرائيل بالضرب. في مطلق الأحوال، تبقى حكاية صواريخ «سكود» أمراً غامضاً يصعب تحديد الجهة التي سوقتها. علماً أن شمعون بيريز كان أول من حملها الى صديقه ساركوزي. ثم روجتها الإدارة الأميركية مع بعض التشكيك، بهدف منع نتانياهو من الإقدام على شن حرب متهورة قد لا تنجح في محو آثار هزيمة صيف 2006. ومع أن دمشق نفت بلسان وزير خارجيتها هذه الحكاية، إلا أن أجوبة قادة «حزب الله» تركت الموضوع غامضاً كي تلجم إسرائيل وتجبرها على إعادة حساباتها. وبما أن الحرب أصبحت مستبعدة، فقد نشطت الديبلوماسية الأميركية كي تملأ الفراغ، وأرسلت جورج ميتشل من جديد كي يقنع نتانياهو بأن يصغي الى نصائح المجرب وزير الدفاع إيهود باراك. ومن المتوقع أن تستأنف عملية السلام خلال أسبوعين بطريقة التفاوض غير المباشر، على أن يقوم ميتشل بدور ساعي البريد، أي بالدور الذي مارسه أثناء مفاوضات إرلندا الشمالية. * كاتب وصحافي لبناني