يحار المرء أحياناً في فهم دوافع السلوك السياسي لدولة مثل إيران: تستفز جيرانها وتعادي المجتمع الدوليّ وتسبح عكس التيار. أغلب الدول التي تمارس السلوك نفسه تفعل ذلك لظروف تختلف كثيراً عن ظروف إيران. فكوريا الشمالية تتبنى نظاماً شمولياً مفرطاً في القسوة والديكتاتورية إلى حد يستحيل معه تقريباً أن يقيم الكوريون الشماليون علاقات طبيعية مع العالم. وليبيا ما قبل الثورة كانت متورطة في قائد غريب الأطوار ومنفصل عن الواقع طوّح به نزقه خارج السياسة. كذلك هو الأمر مع كوبا وسوريا وفنزويلا ونيكاراغوا والسودان بدرجات متفاوتة من الخصام مع المجتمع الدولي والقوى العظمى تبعاً لذهنية قادتها الانقلابية المشوشة والمبنية على مصلحة الفرد أو الحزب. إيران -في المقابل- ليست رازحة تحت تلك الظروف وبالتالي ليست مضطرة إلى مثل هذا السلوك. تاريخ إيران السياسي والإقليمي، وعمرها الحضاري الطويل، ومواردها الاقتصادية الرغدة، وموقعها الإستراتيجي المميز، وقدراتها البشرية المتفوقة، ونظامها (شبه) الديمقراطي، كلها مقومات بوسعها أن تضع إيران في مقدمة دول المنطقة -بل والعالم- دون ضجيج ومشكلات. ففي حال قررت إيران اليوم أن تتوقف عن كل ما يثير حفيظة العالم، وتتبنى إصلاحات حقيقية تهدف لرخاء البلاد ورفاهية المواطن، فلن يشك أكثر الاقتصاديين تشاؤماً أنها ستنضم إلى قائمة الاقتصادات الناشئة الكبرى (الصين، روسيا، الهند البرازيل) خلال عقد من الزمان، أو تنضم على أقل تقدير إلى قائمة الدول الأسرع نمواً التي يراقبها العالم بإعجاب مثل الأرجنتين وتركيا وغيرهما. قد تكون إيران متورطة بقيادة سياسية متطرفة ولكنها ليست مجنونة. قد تكون مقيّدة بنظام دينيّ ضيق الأفق ولكنه ليس مشلولاً. قد تكون محكومة بخليط من العسكر والفقهاء ولكنها ليست مختطفة تماماً. مازال الشعب الإيراني يمارس حقوقاً سياسية واسعة قياساً على أوضاع المنطقة، ومازال يدير اقتصاداً ضخماً يملك هامش حرية واسعا، ومازالت الثقافة تشهد حراكاً إلى حد ما ولم تخنقها الأيديولوجيا بعد، ومازال كثيرٌ من العقول الإيرانية يفضلون البقاء في بلدهم على عروض الهجرة المغرية. فكيف يمكن أن تتوفر كل هذه المقومات الإيجابية التي تحلم بها أغلب دول العالم بين أيدي صنّاع القرار في إيران ثم يقررون أن يتنكبوا الطريق الصعب، ويسيروا عكس اتجاه العالم، كما تفعل الدول القليلة المبتلاة بقائد مجنون أو أيديولوجيا خانقة أو موارد معدومة؟ كيف تتوفر لها كل هذه المقومات (الحقيقية) ثم تعيش في عالم الشعارات (المزيفة)؟ كل المعجزات الاقتصادية والتنموية في القرن الأخير يمكن لإيران تحقيقها بمواردها الحالية دون حاجة إلى هذا السلوك الدونكيشوتي، فأي مجدٍ غير ذلك تسعى له إيران؟ ثورة عام 1979 كانت نقطة تحول كبرى في تاريخ إيران والمنطقة بأسرها. هذه الثورة تستحق أن يطلق عليها لقب الثورة المختطفة. فهي في بداياتها كانت ثورة شعب -بكل أطيافه الدينية والعرقية والحزبية- على طاغية تآمر مع الدول العظمى ضد مصلحة شعبه فأعاق تقدمهم ورفاهيتهم ونهضتهم، حتى إذا نجحت الثورة في خلع الشاه، بدأ عهد الخميني بوعود الدولة المدنية والمساواة والقانون، ولكنه حالما أحكم قبضته على الحكم بدأ في اختطاف الثورة لصالح أيديولوجيته الضيقة وطبقته المنتقاة. فتحول حتى مسمى الثورة من الثورة الإيرانية إلى الثورة الإسلامية رغم أنه حتى غير المسلمين شاركوا فيها. ودخلت ثورة إيران عهدها المظلم الذي شوّه كفاح أبنائها، ودنّس شرفهم الثوريّ، وأضاف لطخة جديدة إلى سجل الثورات العديدة في العالم التي تبدأ بحلم وتنتهي بوهم. برأيي، أن هذا الاختطاف السياسي للثورة الإيرانية هو جريمة قومية طويلة المدى لم تستطع القيادة الإيرانية تبريرها طيلة 32 سنة من الحكم. تصاعد الحنق الشعبي، وتزايد أعداد المنفيين، وتردي أوضاع الناس أدلة واقعية على هذا الفشل. حتى الآن، لم تستطع القيادة الإيرانية أن تقنع شعبها بأن ثورتهم لاتزال على قيد الحياة ولم يتم دفنها في السنة الأولى من خلع الشاه، وبأنهم استبدلوا بطاغية فرد نظاما كاملا من الطغيان. هذا الفشل المستمر في تبرير جريمة اختطاف الثورة، وتمرير أجندة الحكام الجدد، وتزييف الوعي الشعبي الإيراني، هو الذي يشكل أحد دوافع السلوك السياسي الإيراني مع العالم. فإيران مضطرة إلى إبقاء جذوة وهمية للثورة متقدة في نفوس الناس؛ خوض الحروب العابرة، واختلاق العداوات الإقليمية، واختراع البطولات الزائفة؛ كلها محاولات لإطالة عمر الثورة إكلينيكاً، لأن النخبة السياسية الحاكمة تعرف جيداً أنه حالما تنطفئ هذه الجذوة الثورية في النفوس سيبدأ الناس في طرح أسئلة غير محبذة حول أحقية خامنئي بمنصبه الأبديّ، ودور الحرس الثوري في الدولة. هذا كله قد يقوّض دعائم الحكم (العسكر- ديني) في إيران ودون ذلك خرط القتاد.