يكاد الراصد لتصرفات القيادة الإيرانية أخيرا يرى أنها تمارس ما يمكن تسميته بالهروب إلى الأمام، بمعنى أنها لا تسعى إلى لملمة الشأن الداخلي رغم عظم الانشقاقات وتصاعد المظاهرات وقوة ومنطقية الاحتجاجات، بل تسعى على العكس إلى استخدام استراتيجية تشابه ما قلناه في مقالٍ سابق «الثورة الثقافية في الصين»، أو ما سماه يوشكا فيشر ب «المحاكمات الستالينية» في مقالة له في جريدة الحياة بتاريخ 12 سبتمبر 2009، ويبدو أن «الولي الفقيه» قد حسم خياراته باتجاه القضاء على المعارضة الداخلية بالقوة وبالقوة وحدها، وهو ما يؤذن بضعف النظام لا قوته وبهوانه لا بعزته، فقد قال الولي الفقيه خامنئي في تصريحات مثيرة بأن «التخلي عن الحقوق النووية الإيرانية يهدد ب(انهيار النظام)» كما جاء في الشرق الأوسط 12 سبتمبر 2009. يبدو هاشمي رفسنجاني في هذا المشهد الدراماتيكي الإيراني وهو من هو في تاريخ إيران ما قبل الثورة وأثناء الثورة ومابعد الثورة يبدو وكأنه اليوم «مؤمن آل فرعون»، فهو يعي حجم الأخطار المحدقة ببلاده وحجم التخبط في القيادة السياسية، وضخامة الاحتجاج الشعبي، وعظم الغضب في أوساط المرجعيات الدينية وأتباعها داخل إيران وخارجها، فضلا عن رؤيته لما يمكن أن ينتج عنه الحذر الدولي والترقب العالمي للخطر المتوقع قدومه من إيران، وبخاصة أن درس الحادي عشر من سبتمبر لم يعد يسمح بأي قدر من التهاون ولا أي مخاطرة بالتماهن. وها هو يهدد بالاستقالة من جميع مناصبه إذا تم تنفيذ اعتقال القائد الإصلاحي مهدي كروبي، الذي تم اعتقال نجله في هذا الأسبوع وتم تعذيبه والتنكيل به، واحتجت والدته على هذا برسالة مباشرة للولي الفقيه علي خامنئي دون إجابة! لا يخفى على المراقب اليوم أن إيران تشهد مراكز قوى متعددة، يمثل أولها الإصلاحيون الذين يقودهم مير حسين موسوي والمحتج بصخب مهدي كروبي والرئيس السابق محمد خاتمي، ويدعم هذا التيار على أكبر هاشمي رفسنجاني، وقد استطاع هذا المركز استقطاب عدد لا يستهان به من المرجعيات الدينية وآيات الله وأتباعهم في قم، ويمثل ثانيها التيار المحافظ الذي يقوده أحمدي نجاد والحرس الثوري بدعم من الولي الفقيه خامنئي، وحين يتهم خامنئي التيار الأول بأنه يسعى إلى تحويل إيران الثورة الإسلامية إلى علمانية ذات مسوح إسلامية فإنه يعلن انحيازه للتيار الآخر دون مواربة. من الظاهر أن الانحياز للتيار المحافظ يعني بشكلٍ أو بآخر الانحياز لفكر الخرافة على حساب فكر الواقع الذي يتبناه التيار الأول، والتيار المحافظ وقياداته منغمسون حد النخاع في الخرافة وذيولها الطويلة، من أحمدي نجاد القادم من «جماعة الحجتية» إلى بقية الرفاق من قيادات الحرس الثوري وعناصر الباسيج البسطاء، وهذا الانحياز للخرافة ضد الواقع، وللأيديولوجيا ضد العقل، هو انحياز شديد الخطورة ذلك أن حسابات الأيديولوجيين الصارمة لا تقيم وزنا للواقع الداخلي والإقليمي والعالمي المعقّد، بل ربما عاندته بغباء كما فعلت القاعدة من قبل، وتلك مصيبة ليس على إيران وحدها بل وعلى دول الجوار كذلك، فمن يعبد الطرق لاستقبال المهدي المنتظر ومن يزود طريقه المظنون بالإضاءة والخدمات، ويعتقد أن العالم لا يعارضه إلا لمنع المهدي المنتظر من الخروج (كما هي عقيدة أحمدي نجاد)، من يفعل هذا فهو إنسان لا يمكن أن يصل لاتفاقٍ مع العالم ولا أن يرضى بحلٍ سياسيٍ، فهو في عماية الأيديولوجيا لا يبصر مايجري على الأرض و لا ما يحدث فيها. آخر ما يمكن قوله هو أن إيران مختطفة من قبل نجاد والحرس الثوري قبله لمصلحة آيديولوجيا لا تمت لواقع الشعب بصلة، وأنهم وفق تلك الأيديولوجيا مستعدون لإحراق شعبهم ومعارضيهم في الداخل والخارج على حد سواء، وليس لنا أن نقول إلا أنه حين تستبد الأيديولوجيا بالعقل فإن عين السياسة تصاب بالعمى. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 250 مسافة ثم الرسالة