بعد تجربة أربعين سنة في الطب والجراحة يحق لي أن أروي تجاربي لقرائي، أليس كذلك؟ أذكر من الجراح الفرنساوي ليريش كتابه الجميل (ذكرياتي من الجراحات الكبرى)، كما أذكر من الحقل الألماني ذلك الجراح الجريء (ساوربروخ Sauer Bruch) الذي تجرّأ ففتح الصدر للمرة الأولى، بل أجرى جراحاته حتى على القطط والكلاب. ولقد روى ليريش عن اجتماعه به وكان معارضاً للنازية ومعاصراً لها. أذكر من مدينة بانيه (Peine) القريبة من هانوفر جراح العظام شيلمان، وأعجب ما فيه أن تغيير ملابسه لدخول العمليات لم يكن يستغرق منه أكثر من نصف دقيقة، ولم أكن أعرف سره! كان يرمم الكسر ويقول إنه مثل التشريح؟ أما عندنا فقد حفظت ذاكرتي مجموعة من الكوارث الجراحية؛ فقدري كجراح أوعية أنني مضطر للاشتراك مع جراحي العظام في العمليات المختلطة من كسر وإصابة وعاء دموي. أذكر من دمشق أستاذ العظام الذي (جبَّر) لطالب جامعي كسر ساقه، وانتظرنا شهراً، فلما فتحنا الجبس كان الكسر كما هو. أظنه لم يكن يملك أي خبرة في (تثبيت العظام بالحديد)، وهي طريقة برع فيها الألمان والسويسريون (اسمها Osteosynthesis). وعدني نفس الجراح بإجراء تصليح عظمي لطفلة معها خلع ورك ولادي، فحضرتها عشر مرات دون فائدة. عرفت أنه لا يعلم ولكنه لا يعترف. في يوم صلحنا شريان الذراع في إصابة، وانتظرنا شهراً حتى اطمأننا على تروية الطرف، فلما فتح الجبس صديقنا من قسم العظام التوت ذراع المريض كأن لم يثبتها أحد. مهدداً عمليتنا بالفشل وذراع المريض بالبتر! إنها فصول مأساوية من رحلة مجبر فيها على ركوب زورق مع آخرين يهددون زورقك بالغرق. مع هذا فقد عملنا مع جراحي عظام جمعوا الخلق والفن، فلهم التحية تزجى.