قبل خمسة أعوام مضت، دفعتني جملة قالها الدكتور مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا السابق لزيارتها، وذلك لاستكشاف ومعرفة ما قصده الرجل الأسطورة عندما تساءل قائلا: إذا كنا جميعا رجال دين فمن سيقوم بتصنيع الطائرات والصواريخ والسيارات وأدوات التكنولوجيا الحديثة؟ في البدء لم أكن متحمسا لزيارة بلد من الممكن الإقامة فيه لمدة أسبوع بألفي ريال مع تذاكر السفر، وذلك من خلال الإعلانات التي تنتشر في الصحف آنذاك، شعرت أن ذلك المكان ليس الذي يناسب الجميع، واعتقدت أنه كبعض دول شرق آسيا في ذلك الزمن البعيد عندما كان الشباب يذهبون بميزانية قليلة ويقيمون فترة أطول! إلا أن الرغبة في اكتشاف المجهول لتلك الدولة الإسلامية شجعتني على المضي قدما وترتيب جدول زيارة سريعة لعلي أجد إجابة شافية لتساؤل مهاتير وتساؤلاتي! يقال إن منافذ الدخول لأي بلد في العالم تعكس صورته الحقيقية، وفي مطار كوالالمبور بانت حقيقة ماليزيا، ولم أكن بحاجة لأن أعترف بخطأ الحكم المسبق على الأشياء، كانت رغبتي ملحة في معرفة كيف حصل هذا؟ كيف استطاع الفرد الذي بلغ دخله عام 1981م مائة دولار سنويا، أن يرفع دخله إلى ستة عشر ألف دولار في السنة خلال أقل من عشرين عاما؟ وكيف استطاع الشعب الذي يعيش في الغابات ويزرع المطاط والموز والأناناس، أن يبني أعظم ناطحات السحب في العالم، وأن يبني المطارات والأنفاق والطرق السريعة العملاقة والفنادق الأضخم والأكثر قدرة على استيعاب السياح من أي دولة أخرى؟ بالفعل ما شاهدته هناك لا يصدق، شيء يشبه المعجزة، ماليزيا المبدعة في كل شيء.. الصناعة.. السياحة.. الخدمات.. التعليم والصحة.. ماليزيا الرائعة في كل شيء.. التعامل.. التواضع والاستقرار والأمان. كيف حدث ذلك، التحدي الأكبر من وجهة نظري الذي تغلب عليه مهاتير من أجل صناعة النهضة الماليزية تمثل في وجود 18 ديانة يؤمن بها السكان، الذين يغلب عليهم التناحر والتصادم، فتحولوا بعد أن أعلن استراتيجيته للوصول إلى النهضة الشاملة إلى (إخوة) يفاخرون بتآخيهم، ويرددون ذلك، فأصبح الماليزي الأصلي أو الصيني أو الهندي، وهي الأصول الأكثر عددا في البلاد، يتخاطبون فيما بينهم كما يفعل الآخرون في التنظيمات الإسلامية (يا أخي).. لكنها إخوة مختلفة عن التي نعرفها.. إخوة بناء.. وبناء.. وبناء فقط! ما جعلني أكتب عن التجربة الماليزية أو بمعنى أدق (الإخوان) الماليزيين، ذلك الحجر الذي ألقاه قينان الغامدي ب «لماذاته» الأربع في المياه الراكدة، التي كانت تغلي في الأعماق، فقامت القيامة واهتزت الأركان، وأصبحت (الشرق) كمن قضم التفاحة المحرمة، فأصبح البعض يردد ويرد على قينان ب «لماذات» أكثر من أربع، تتضمن التشكيك والتهديد والوعيد والويل والثبور وعظائم الأمور لمن يجرؤ على التعليق! إخواننا غير، تنظيما وفكرا ومعتقدا! هم أكثر قوة.. وأعلى صوتا.. وأقل إنتاجية فيما يتعلق بالتنمية، ومن يقترب من أعشاشهم يدفع الثمن غاليا، وإلا كيف نفسر فتاوى تحريم العمل مع غير المسلمين ليس فقط في نفس المكان بل في المكان الذي يقرب من ذلك المكان! الأمر الذي شتت أسرا كثيرة وساهم في قطع الموارد والأرزاق، وفي الوقت نفسه يقوم مصدر تلك الفتاوى باحتضان الأحبار والقساوسة علنا ويصبح ذلك من تقارب الأديان وتسامح الإسلام! ويصبح هو بطلا قوميا، يدافع عن الإسلام، ونجما تليفزيونيا ينافس المشاهير، كيف ذلك؟ أنا شخصيا لا أستوعب ولا أفهم! عندما يرتمي شخص تحت أقدام شخص آخر مهما بلغت مرتبتيهما من النزول والصعود؛ فإن ذلك يعني أن هناك شيئا ما خطأ، فالبركة لا تؤخذ بهذه الطريقة سوى في المافيات الإيطالية التي تخطط لجرائم شيطانية، لا لنشر دين متسامح كالإسلام. هم يمولون مشاريعهم لا مشاريع المجتمع، فنيل السلطة هو المعيار الحقيقي للمساهمة المجتمعية، أما غير ذلك فهو يوجه للبناء من الداخل، منظومة تستحق أن يستثمر فيها، طالما أنها ستحقق الأهداف، وبالأمس أعلن في الكويت أن إخوان الإمارات يتلقون تمويلهم المادي من نظرائهم في الكويت، وهم هكذا ينتشرون في دول الخليج الغنية، يتمددون بقوة، يسابقون الزمن، يديرون بعض الدول الصغيرة التي لا هوية لها سوى الإعلام، لكنهم سيسقطون حتما إذا اعتقدوا أن العالم ثابت وهم المتغيرون أو بمعنى أصح المتلونون، وأن الدين سيحميهم من عواقب الأمور..على الرغم من الطرح الغريب الذي يرتبط بالدين عند أي مأزق، كما فعل ذلك إخواني غريب الأطوار لم يجد مقارنة لمرسي مصر أقرب من تشبيهه بالصديق النبي يوسف، وتلك مسألة قد نتجاوزها لسبب أو لآخر، أما زميله الآخر فلم يجد ما يبرر به فشل خطة المائة يوم الخاصة بمرسي سوى بقوله: وما فعل الرسول في المائة يوم الأولى من الهجرة! وذلك فكر لا يمكن تجاوزه بسهولة، ولا يمكن أن ينطلي على أحد حتى لو كان مجوسيا! ما أستغربه حقا: أنهم دائما يوضعون في المقدمة، ونحن الذين نعتقد أن لا هواء يستنشق في العالم سوى هواء وطننا، وأن لا ماء يروي سوء مائه، وأن لا ظل يستفاء به إلا ظله، وأن لا قيادة لهذه البلاد إلا قيادته.. نقف في الصفوف الخلفية دائما! رسالة قينان ولماذاته وجهت للمسؤولين وللمواطنين.. وللناس.. وأنا رسالتي أوجهها (للإخوان) دعونا نقتدي بإخوان ماليزيا: نفكر.. نخطط.. ننفذ ونبدع من أجل مستقبلنا ومستقبل أبنائنا.