تنقلت عيناه ببطء بين عقارب الساعة ونافذة منزله المطلة على مدخل البناية التي يسكنها، دقيقتان وظهر «الحاج عبدالحميد» وهو يخرج من البناية متجها للمسجد القريب، ليبدأ «جلال» رحلته اليومية التي لا تتعدى نصف الساعة ما بين أذان الظهر وحتى انتهاء الصلاة، ليجلب لبيته ما تيسر من احتياجات أسرته، قبل أن يعود «الحاج عبدالحميد»، ويكون مضطرا للإجابة عن تساؤلاته العديدة عن موعد دفع أجرة البيت المتأخرة منذ ثلاثة أشهر. «سئمت أسطوانة التهديدات اليومية من صاحب المنزل بطردي إن لم أدفع الإيجار، ولم يعد أمامي سوى الهروب من مواجهته بأي حال من الأحوال»، بهذه الكلمات عبّر جلال ل «الشرق» عن مبررات تصرفه الغريب مع صاحب البناية الذي لا يستطيع مواجهته بجيوب شبه خاوية بعدما تأخرت حكومة رام الله في صرف رواتب موظفيها نتيجة أزمتها المالية. ويصف جلال ل «الشرق» علاقته مع صاحب المنزل بالعلاقة بين «القطة والفأر» فهو يظهر عندما يختفي الأخير، ويختفي عندما يكون موجوداً، معتبرا أن المشكلة الأكبر التي يواجهها هي تساؤلات أطفاله وهم يبحثون كل صباح عن المصروف في جيوبه الفارغة من النقود». ويضيف جلال الذي يعيل خمسة أطفال: «لا مجال أمامي إلا التهرب من صاحب البناية والسوبر ماركت والكثير من الديَّانة الذين يريدون ديونهم المتراكمة عليّ بسبب أزمة الرواتب، التي حولت حياتنا إلى ما يشبه «الموت البطيء». وتتشابه معاناة «جلال» مع معاناة حازم أبو سويعد أحد أفراد الأجهزة الأمنية المعروفين ب «تعينات 2005» في انقطاع الراتب منذ شهرين، لكن معاناته من راتبه الذي لا يزيد عن 300 دولار تتضاعف؛ لأنه ينفق منه على عائلته المكونة من سبعة أفراد بعد أن فقد والده عمله، دون أن يكفي في الأصل لسد احتياجات أسرته، مضيفا ل «الشرق»: «ما بالك عندما يتأخر الراتب لمدة شهرين، هذا يعني أننا حكم علينا بالموت». المشهد بدا مختلفاً في فروع البنك الإسلامي الوطني المقرب من حركة حماس، فهناك اصطف المئات من موظفي حكومة غزة الذين بدأ صرف رواتبهم بعد خصم بعض المستحقات لصالح الحكومة منها. «إسلام» شاب في الثامنة والعشرين من عمره، كان سعيدا بالراتب الذي تلقاه على الرغم من خصم جزء منه كزكاة، وجزء آخر لسداد فاتورة الكهرباء، فهو يستطيع الآن كما أخبر «الشرق» أن يساعد والده في إعالة إخوته، وسيتبقى له ما يكاد يكفي لمعيشته مع أسرته الصغيرة المكونة من زوجته وطفلته التي لم تتجاوز الثانية من العمر. حكومة رام الله لم تجد مفراً من دراسة ما وصفته مصادر رفيعة المستوى داخلها ب «الخيارات القديمة» للتخفيف من حدة أزمة الرواتب المتأخرة، في إشارة لنفس السياسات التي اتبعت عام 2006 خلال تولي إسماعيل هنية رئاسة الحكومة العاشرة، التي بسببها امتنعت إسرائيل عن تحويل أموال الضرائب للسلطة الفلسطينية. وأضافت المصادر أن حكومة فياض تدرس خطة لتقليص رواتب موظفي القطاع العام خلال الأشهر الأربعة المقبلة بمقدار النصف بشكل مؤقت، ويعاد النصف الباقي للموظفين بعد انتهاء الأزمة، مرجحا صرف 50% من راتب ديسمبر الماضي خلال هذا الأسبوع.