عندما نتأمل المشهد السياسي المصري الراهن، يمكن أن نختزله بالقول: إنه صراع سياسي حاد بين تيارين سياسيين كبيرين متنافرين. حقاً، لقد تمخض «الربيع المصري»، في الواقع السياسي للمحروسة، عن صراع -على السلطة- بين التيار الإخواني الإسلامى، من جهة، والمعارضة التي سمت نفسها -بعد أن وحدها شيء واحد فقط هو معاداة الإسلاميين- ب «جبهة الإنقاذ الوطني»، من جهة أخرى. في واقع الأمر هو صراع بين تيارين أيديولوجيين سياسيين: الإسلام السياسي المعتدل، والاتجاه العلماني المناوئ لذلك الاتجاه. ويمكن القول: إن أبرز موضوعات الخلاف الصراعى هي: الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس محمد مرسى قبيل الاستفتاء على الدستور، وإصرار الرئيس مرسى على طرح الدستور الجديد للبلاد للاستفتاء الشعبي، رغم انسحاب قوى المعارضة الرئيسية من «اللجنة الدستورية» لصياغة الدستور، ووجود «تحفظات» من قبل تلك المعارضة على بعض مواد ذلك الدستور. والآن، وبعد إقرار الدستور (بنسبة 63,8%) تبين أن هذا الإقرار يظل ضعيفاً، خاصة أذا أخذنا في الاعتبار أن نسبة المشاركين في الاستفتاء عليه كانت حوالي 40% من مجموع الناخبين المصريين. ومعظم منسوبي «حزب الكنبة» لم يشاركوا. ولكن، وفى كل الأحوال، فإن هذا الدستور قد أقر قانونا ونظاما، وأصبح لجمهورية مصر العربية دستور جديد، وضعه الشعب وممثلوه، لأول مرة في تاريخ مصر. وهذا يعد -في حد ذاته- إنجازاً سياسياً مرموقاً، يسجل للربيع المصري. والواقع، أن ذلك الدستور يعد، من الناحية النظرية القانونية – السياسية، من أفضل وأرقى دساتير العالم، إذا أخذنا في الاعتبار الخصوصية المصرية أولاً، ثم العمومية البشرية ثانياً. وهناك -كالمعتاد- نص في ذات الدستور عن إمكانية إجراء أى تعديل فيه لاحقاً. ولهذا، فإن الخلافات بشأن المواد المختلف عليها فيما بين القوى (الأحزاب) السياسية المصرية، يمكن تسويتها عبر إجراء تعديلات لاحقة لهذه المواد. ظهرت المعارضة المصرية لحكم الإخوان في صورة سيئة، لأنها افتقرت إلى الموضوعية التي تتطلبها المرحلة السياسية التي تمر بها مصر، بعد حوالي ستين سنة من الحكم الديكتاتوري العسكري الغاشم. وأخذ على هذه المعارضة تناغمها مع قوى إقليمية وعالمية معارضة ورافضة لثورة 25 يناير 2011 م المصرية، وهى الثورة التي يفترض أن تنقل مصر من ديكتاتورية مهينة إلى ديمقراطية… تتاح فيها للأغلبية إدارة الدولة، وبما لا يضر بمصالح الأقلية. ومما يؤخذ على هذه المعارضة أيضاً: تسفيه عقيدة غالبية المصريين، وموالاة فلول النظام المباركى السابق، وبعض القوى الخارجية المعادية لثورة 25 يناير، رغم ادعاء تلك المعارضة بأنها إنما تسعى لتحقيق أهداف تلك الثورة! وبعد انكشاف تلك المعارضة، تبين أن لا قضية حقيقية لها، سوى رفض سطوة حزب الحرية العدالة. لذلك، تآكلت مصداقية تلك المعارضة، مصرياً، وتبين أنها لا تقبل بما تراه غالبية الشعب المصري المقترع، إن خالف هواها. وهذا لا يعنى أن حزب الحرية والعدالة لم يرتكب أخطاء. فقد فات عليه أحيانا أن يفرق بين الحزب والدولة، ووسمت بعض قراراته بالتسرع. ويعود ذلك بالطبع لحداثة قادة هذا الحزب بالعمل السياسي. وإن أراد هذا الحزب النجاح والاستمرارية، فإن عليه أن يقبل بكامل عناصر وتبعات اللعبة الديمقراطية، وأن لا يحاول يوما خرق قواعد الديمقراطية التي أتت به إلى السلطة. وعلى هذا الحزب أن يعي دائما أن مجرد التفكير في «فرض» مبادئه -داخليا وخارجيا- على من لا يريدها، وعدم الالتزام بحكم الأغلبية، سيعنى: أن مصيره قد يشابه مصير «جبهة الإنقاذ الوطني» الجزائرية. وسيعنى ذلك نهاية -وإن مؤقتة- للتيار الإسلامى المعتدل. ويعد غالبية أعضاء حزب الحرية والعدالة من أكثر الجماعات السياسية الإسلامية اعتدالاً، وتنوراً، وتمسكاً بالوسطية. لذا، فإن من المتوقع أن يلتزم هذا الحزب بالاعتدال الفكري، واحترام الآخر، وعدم الإضرار بالأقليات -بأنواعها- حتى لا توأد هذه التجربة في مهدها. وأن التزام الحزب بهذه المبادئ سيعزز من فرص نجاحه واستمراريته. إن صحة مصر السياسية (وبالتالي الاقتصادية والاجتماعية والأمنية) تؤثر بالإيجاب على المنطقة العربية، لما لمصر من ثقل حضاري معروف. لذلك، فإن ما يجرى بأرض الكنانة يهم كل عربي مخلص لأمته ولبلادها. ليشرع الآن في تطبيق الدستور الجديد، والوفاء باستحقاقاته، ومن أهمها، في هذه المرحلة، انتخاب مجلس الشعب الجديد…الذي سيتولى، مع مجلس الشورى، السلطة التشريعية، ولتتفرغ الرئاسة للأمور التنفيذية. أما القضاء المصري، فإنه بحاجة إلى مراجعة مواقفه، وتصحيح أخطائه التي ارتكبت على مدار الثلاثين عاما السابقة لثورة 25 يناير… ليصبح -بحق- نعم القضاء الذي يمكن أن يكون قدوة لغيره. إن تعافي مصر هو مطلب عربي وإسلامى ملح، يسهم تحققه في مواجهة التحديات الجسام التي تواجهها الأمة والمنطقة. ومما يبعث على التفاؤل هو ما يلوح الآن في الأفق مشيراً إلى أن هذا التعافي قد أصبح وشيكاً.