أتذكر بحرقة وألم أن أيام الأعياد والإجازات تشكل للمجتمع أياماً جميلة وسعيدة، لكنها تشكل لنا نحن «الأيتام» أياماً مزعجة تذكرنا بالوحدة والشتات، فعندما وصلت أعمارنا فوق «خمس عشرة سنة» كشباب في سن المراهقة، عزفت كثير من الأسر البديلة عن استضافتنا، لسبب ما قد يكون وجيهاً، وهو أننا «كشباب» في سن المراهقة غرباء عن أسرهم، فقد يؤثر وجودنا على سمعة الأسر المستضيفة لنا خاصة إذا كان لهذه الأسر بنات في سن المراهقة أو الزواج، فقد تتأثر سمعة العائلة، وقد لا يتقدم أحد لخطبة بناتهن إن كانوا يستضيفون «شاباً» غريباً عنهم، من هذا المنطلق تتجنب الأسر البديلة استضافتنا تحاشياً للإحراج والهمز واللمز، ومنعاً لتأويلات وشائعات المجتمع التي قد تطالهم أو تشوّه سمعة أسرهم. كذلك كانت أيام الإجازات والعطلات المدرسية تشكل لي ولكل (يتيم) هماً وكابوساً مؤرقاً، خاصة بعد اختلاطنا بزملائنا في المدارس من أبناء الأسر وأبناء المجتمع الذين كانوا يفرحون بقدوم الإجازات ويخبروننا أين سيذهبون مع أسرهم لقضاء إجازاتهم، كنا نسمع منهم ونرى الفرح والسعادة تشع من عيونهم، كانت رواياتهم وأحلامهم وفرحهم بالإجازات وكلامهم عن أسرهم وعن تخطيطهم للسفر يجعلنا نحن (الأيتام) نصاب بإحباط وغصة حزن وألم، كنت أقول لنفسي ما الذنب الذي اقترفته لأكون أسير دار إسمنتية يقتلني فيها روتين ممل، أنا وزملائي في الدار، ومن هم في مثل أعمارنا من أبناء الأسر يستمتعون بالسفر مع أسرهم ويحظون بحنان وعطف أسري؟! علماً بأن الدار كانت تنظم لنا رحلات سفر وترفيه، إلا أنه من المؤلم لنا أننا عندما نذهب للأسواق تجد كل أهل المحلات التجارية في الأسوق يعرفون أننا من (أطفال الدار) فعندما نريد أن نشتري لوازم أو أشياء خاصة من الأسواق أو نشتري أكلاً من المطاعم يقوم بعض المشرفين والمراقبين بإخبار البائعين أننا (أيتام) من الدار ويجب أن تتم مراعاتنا في السعر، كانت هذه الاستعطافات تشكل انكساراً لكرامتنا وإنسانيتنا، ويُشعِروننا كأننا «نتسول» رغم أننا لسنا بحاجة لهذا الاستعطاف الذي يقوم به المشرفون والمراقبون، فلدينا من المال والمصروف الشخصي الذي توفره لنا الدولة مشكورة ما يكفينا ذل الاستعطاف والعطف من قِبل الباعة، لكنها ثقافة مجتمع يُشعِرك (كيتيم) حتى في عطفه وشفقته بضعفك وأنك تستحق الشفقة والعطف وغيرك مميز عنك، كل هذه الممارسات والوحدة كانت تنعكس سلباً على نفسيتي ونفسيات زملائي في الدار، وتسبب لنا ردة فعل سلبية تؤثر في معنوياتنا، وتسبب لنا ألماً نفسياً لا تتحمله النفس البشرية السوية. ورغم أني أقدّر الدُور وحمايتها لنا من الضياع والتشرد أثناء مراهقتنا، لكنها تظل في نظرنا قفصاً يحبس حريتنا حتى لو كان هذا القفص فيه كل وسائل الراحة وملذات الحياة، فتظل كالقفص المظلم الخالي من أضواء الحرية، الذي يشكل كبتاً لحركاتنا واستقلاليتنا، فالنفوس البشرية كالأزهار لا يمكن أن تنمو في الغرف المظلمة، بل تحتاج للنسمة، وللشمس، وللحب، والاحتواء، والاهتمام. ومضة ختام: «إذا جروحك إللي بلا ضمائر عاملهم بأخلاق لأنهم بلا أخلاق… الشمس لو تزعل على أهل الستائر ما كان تداعب الناس بإشراق»؟!