عاشق أنا للسفر والترحال وأجدني فيه تواقاً مشتاقاً وما إن أصل إلى معشوقتي مدينة جدة حتى أرى نفسي قد نظرت إلى حقيبة سفري المرهقة للتو من وعثاء السفر لأبدأ بتلك الخطوات التي أصبحت مع مرور الأيام سريعة الرتم فتعرف من تلقاء نفسها ما هي الأشياء التي يجب أن تكون فيها وما هو السفر التالي؟ وفي بعض الأحيان، لا أحتاج إلى نظرة كهذه لأن الأمر قد حسم فعلاً وقررت وجهتي القادمة وأنا في رحلة عودتي بالطائرة. ولو ترجع لي الأيام، فإني لن أختار إلاّ مهنة الطيران فهي مهنة تجعل الإنسان حراً يحلق كما الطير هنا وهناك ليكتشف جمال العالم الذي صنعه الله سبحانه وتعالى فأعطى وهو العادل في عطائه لكل منطقة جمالاً يميزها عن المناطق الأخرى. وفوائد السفر كثيرة ولا يمكن حصرها في مقال واحد أو حتي في كتاب واحد وذلك لأن فوائده تحكمها عدة عوامل وتختلف التجربة فيه من إنسان إلى إنسان ومن مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان. ويكفي من السفر بصورة عامة، اكتشاف معادن الناس ليسهل تصنيفها ولهذا يقول المثل العربي «الرفيق قبل الطريق». فالسفر هو من يساعدنا على تصنيف الناس في قوالب سلوكية مختلفة وهي قوالب يمكن أن تكون بمثابة مقاييس نقيس بها سلوكيات الناس وذلك بسبب بسيط لأن سلوكياتهم تتكرر بتكرر المواقف والظروف المكانية والزمانية. والسفر قد منحني عدة فوائد لعل أولها اكتشاف الثقافات الإنسانية المختلفة. واكتشاف الثقافات عندي، يكون بأحد أمرين: الاحتكاك المباشر بالناس من خلال تبادل الأحاديث في الموضوعات المختلفة أو الذهاب إلى تلك المتاحف التي تروي جدرانها وأروقتها وما بها من آثار ثقافة المكان الذي عاش فيه الإنسان. أذكر مرة وأثناء حضوري لمؤتمر في جامعة (Yale University) بالولايات المتحدةالأمريكية تلك الجامعة العريقة التي تأسست في 1701م وبعد أن تجولت في رحابها وأبهرتني مبانيها وكأنها من العصور الوسطى، قلت لعميد كلية دراسة الأديان إنكم لستم بحاجة إلى دكاترة لشرح المحاضرات. فقال لماذا؟ فقلت له يكفي أن ننظر لجدار الفصول الدراسية التي ستقوم بسبب عمقها التاريخي وما سمعته من محاضرات متعاقبة ومختلفة بشرح المحاضرات للطلاب! فضحك ففهم فشرح الظروف الزمانية والمكانية والإنسانية التي أدت إلى تأسيس الجامعة. والآخر، تدوين رحلة السفر برمتها وبكل ما فيها من مواقف وخبرات…إلخ. وهذه الفائدة التي أصبحت عادة تعرف وقتها قبل وصولي لمقعدي في الطائرة، قد أكسبتني كثيراً من الأمور الحياتية التي سأظل مديناً لها. ففي السفر، يمر الإنسان بمواقف كثيرة ومتعددة ويصعب إن لم يقم بتدوينها في وقتها أن يتذكرها وأن يستفيد من حكمها ورسائلها. وطالماً أن حديثنا عن رسائل السفر، فلقد حدث لي موقف تكرر مرتين ولكن في مدينتين وقد حمل رسالة موجهة. فبعد تخرجي في الجامعة، قمت برحلة هي أقرب إلى أن تكون رحلة مكافأة النفس إلى أوروبا شملت كلاً من: فرنسا وسويسرا. لم تأت الرسالة من مدينة باريس المدينة الساحرة الجميلة أو جنيف مدينة البحيرة الرائعة، بل من مدينة نيس المدينة الساحلية الجميلة التي يقصدها السواح في فصل الصيف أما أنا فقصدتها في فصل الشتاء الذي لم يساعدني على السباحة في بحرها بقدر النظر إليه. وفي وسط هذه المدينة الجميلة بأزقتها الضيقة الممر الواسعة في الفكر والثقافة، حملتني قدماي إلى متجر صغير يوجد به عدد من اللوحات الفنية النيسية الجميلة التي تنم عن أن فناناً قديراً قد قام برسمها. فوجدت في ذلك المتجر صاحبه الفنان جالساً حزيناً مهموماً يرمقني وأنا أطالع لوحاته. فقال هل أعجبتك لوحاتي؟ فقلت له نعم. ثم أخذني إلى داخل المتجر ليخرج لي مجموعة لوحات له ومجموعة صور مع كبار مشاهير السياسة والأدب والفن. فقال لي لابد أنك تسأل نفسك ماذا أوصلني إلى هذه الحالة؟ فقلت بعد تردد ربما. فقال لي إنه الخمر وإدمانه الذي أوصلني إلى هذا الوضع. رسالة نيس لصاحبها الفنان الحزين، وصلتني وأنا في عمر الشباب وقد سبقتها رسالة جدة بنحو عقدين ونيف من الزمن إنها رسالة والدي رحمه الله سبحانه وتعالي الشيخ حسن. فمرة في مدينة جدة وأنا طفل، وجدنا رجلاً بالشارع مخموراً والناس يتقاذفونه ذات اليمين وذات الشمال وهو في وضع لا يحسد عليه. فقال والدي رحمه الله، يا بني نصيحتي لا تشرب الخمر وإلا أصبح وضعك كوضع هذا الرجل.. أتحب أن تكون مثله؟ فقلت لا. جدة ونيس مدينتان جميلتان ومتباعدتان جغرافيا، ولكن جمعتهما رسالة مضمونها واحد.