حقيقة، يجب أن نشكر السيد عبدالرحمن أبانمي، المحتسب الذي أمهل وزير العمل شهراً ليتراجع عن قراره بتوسيع المشاركة المهنية للمرأة قبل أن ينفذ فيه تهديده بالدعاء عليه أن يحل “السرطان" في جسده فلا يُشفى منه، كما حصل مع سلفه المرحوم غازي القصيبي، الذي فتكت الخلايا السرطانية بجسده جراء دعاء “أبانمي" عليه عشرين يوماً متواصلة في الملتزم، بحسب المقطع “اليوتيوبي" الظريف للسيد أبانمي. لي أسبابي الخاصة في شكر أبانمي. واحد منها هو صراحته التي أطلعت المجتمع على نموذج منتشر لمبدأ الاحتساب، نموذج مشوهٌ، ولا بد لتجاوزه أن يجهر به أصحابه ليقف المجتمع على حقيقته ومقدار تشوهه من أجل أن ينجز القطيعة معه، فلا يعود إلى الفضاءات العامة مجدداً. ذاك هو نموذج ترهيب المخالف بالقدر الإلهي، المبني على فكرة الخيرية في ذات المحتسب، خيرية تؤهله لإنزال الشرور الدنيوية بمخالفيه. هذه الفكرة الخطيرة، القائمة على أنني أمثِّل الخير ومَن يخالفني يمثِّل الشر، وبناء على هذه التقسيمة فإن دعائي على مخالفي بالضرر الجسدي سلاح بيدي، وإصابة مخالفي بالشر دليل على أنني أمثل الخير والفضيلة، فيما يمثل مخالفي الشر والسوء. ردود الفعل في “تويتر" على تهديد أبانمي تبين أن الفئات الاجتماعية التي ترفض هذا الطرح المشوه في تزايد و اتساع، لدرجة أن بعض المحتسبين غضبوا من استخدام أبانمي لهذه الأساليب التي وصفوها بالمنحرفة. لكن، ليس هذا السبب الأكبر لشكري لأبانمي ولا لكتابة هذا المقال. السبب الرئيس أن الدراما الصاخبة التي أحدثها تهديد أبانمي يمكن له، إن نحن أردنا، أن يفتح آفاقاً جديدة لجدل مجتمعي جاد حول قضية مجالات عمل المرأة. جدل يفترض به أن يؤسس لخيارات مجتمعية جادة تتعامل مع قضايا البطالة والفقر وبنية قوى العمل من ناحية، والتعامل مع الآثار السلبية المحتملة لفتح مجالات أوسع لعمل المرأة. نحن لا نناقش هذه الموضوعات المهمة بالجدية المطلوبة. لماذا؟ لأن الله كتب علينا أن نصاب بمتلازمة التيارات. كثير من القضايات التنموية تتحول سريعاً إلى تجاذب تيارات، فتفقد على الفور مضمونها التنموي، وتتحول إلى حلقة جديدة من حلقات “داحس وغبراء" الإسلاميين والليبراليين. التعليم أكبر مثال. لعقود ونحن نعرف أن تعليمنا يعاني العلل في تهيئة المواطنين. كلنا نتفق على هذه الحقيقة. بل، وكلنا نتفق على حقيقة أن الأمر يسوء مع الزمن بدلاً من أن يتجمد حيث هو أو يتحسن. ومع ذلك، فجدل التيارات أعلاه أعاق أي تطوير جاد للتعليم. لا نقدر على أن نزيد الوقت المعطى للغات والرياضيات والعلوم؛ لأن ذلك سيكون على حساب المواد الدينية. مجرد صياغة القضية بوصفها صراعاً بين تيارين، بدل أن تكون استجابة لضرورات تنمية البشر، عطلها لكل السنوات الماضية. أصبح توزيع الساعات الدراسية على الحصص (أي، كم حصة للرياضيات وكم حصة للتوحيد) كأنه توزيع حقائب وزارية في حكومة ائتلافية يستحيل تجانسها. قضية مجالات عمل المرأة واحدة من تلك القضايا التي ينسحب عليها الوصف أعلاه. حرب التيارات منع نقاشاً جاداً للمشكلة العويصة. سأقدم أدناه أفكاراً أولية لمناقشة هذه القضية بشكل يأخذ في الاعتبار مشاغل معارضي توسيع مجالات عمل المرأة والمحتمسين لها، مع التبيين للقارئ أنني شخصياً غير محايد في القضية. فأنا أقف في صف من ينادون بتوسيع مجالات عمل المرأة. لكني، أعي وأقدر وأتبنى بواعث قلق المعارضين، وأطالب بأخذه بجدية. يبني المعارضون حجتهم على مسائل بعضها محل إجماع أخلاقي بين الأمم وبعضها ليس كذلك. أقوى النقاط في حجة المعارضين هي مسألة التحرش الجنسي من قِبَل الذكور بالعاملات في مجالات العمل المختلطة. هذه، بحق، مسألة تثير قلق كل السلطات في كل المجتمعات. لكن المعالجة تختلف. فالمجتمعات المصرة على تمكين المرأة و فتح مجالات المشاركة والمساواة لها، وتحقيق التنمية والرفاهة لشعوبها، اختارت أن تطور بنية قانونية ومؤسسات تجعل الذكر المتحرش خاسراً، مع الواقعية في حقيقة أن الاختلاط قد يؤدي لحالات تحرش، لكن هذا لا يجب أن يكون مسوغاً لتأخير تنمية المجتمع كله. المعارضون لدينا اختاروا مساراً آخر يتمثل في الهروب إلى الأمام. لقد ابتدعوا حلاً جنونياً، مدفوعين بالطريقة التي اتبعناها في تنظيم التعليم ومجالات العمل في العقود الماضية. حلهم يتمثل في خلق مجالات عمل للمرأة منفصلة بشكل تام عن عالم الرجال. هذا مستحيل. ففصل مجالات الصحة والترفيه والتسوق وغيرها غير ممكن عملياً. فمنطق العصر الذي نعيش فيه ويجب أن تنتمي أذهاننا له يقرر أنه لا يوجد مجتمع قدر على أن يجمع النجاح التنموي والفصل بين الجنسين في مجالات العمل. لا يوجد مجتمع واحد قدر على هذه التوليفة، وعلى من يعارض هذه الحقيقة أن يأتي ببرهان عملي متحقق في أرض الواقع. الحل، بالنسبة لي، هو اتباع نماذج المجتمعات التي جعلت من قضية التحرش الجنسي في مجالات العمل بمثابة اللطخة السوداء التي تحلق بالمرء فتنزل بأسهمه في فرص المهن والأعمال، وربما تقضي على كل أمل للفرد بحياة كريمة. لذا، يطور الأفراد موانع داخلية تردعهم عن تحويل فضاءات العمل لأماكن تحرش. المنادون بفتح مجالات أوسع للمرأة، بالمقابل، يبنون حججاً مختلفة. بعضها عملي. ف 85% من البطالة لدينا نسائية، بحسب أرقام وزارة العمل. والفقر مشكلة اجتماعية تتوسع وتنتشر ويمكن لعمل المرأة أن يخفف منها. وبعض تلك الحجج حقوقي محض يتخلص في أن العمل حق أصيل للفرد ذكراً كان أم أنثى، وأن منع المرأة منه يكرس هامشيتها وتبعيتها ويقلل من فرص تمكينها. مثله مثل التعليم، موضوع عمل المرأة أجلُّ من أن يتجمد بسبب صراع تيارات يلبي رغبات مهووسة لمجتمع انبنى تنظيمه على الانقسام وحب تكبير نقاط الاختلاف.