فضولُ الإنسانِ لا ينتهي، وولعه بالبحث عن الغيبيات البعيدة مسألة طبيعية بالنسبة للبشر. فهي مكون أساسي في تركيبة الإنسان الموكل إليه أمر عمارة الأرض وهو نفسه الإنسان الذي قال الله عنه في كتابة الكريم «إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً»، والهلع في أحد تفسيراته اللغوية هو أشد درجات الحرص. ومن مثل هذا الهلع تعمر الأرض وتستمر الحياة. تكثر هذه الأيام الأخبار والتقارير ومقاطع اليوتيوب التي تتنبأ بنهاية العالم والتي ستوافق -كما تقول النبوءات 21-12- 2012م،! حفلت صفحات الإنترنت والمواقع الإلكترونية بأخبار تتعلق بنهاية العالم واستعداد البعض للسفر إلى البقعة الوحيدة الآمنة التي ستنجو من هذا الطوفان المدمر، وهي قرية وادعة صغيرة في جنوبفرنسا لا يزيد عدد سكانها على مائتي شخص. «بوغارش» الهادئة استيقظت صباحاً لتجد آلاف السائحين يتكدسون في فنادقها المتواضعة هرباً من نهاية العالم كما تقول أسطورة المايا. والمايا هي واحدة من أعظم الحضارات التي قامت في وسط المكسيك وتميزت في علم الفلك والأجرام وإليها يُنسب أصل هذه النبوءة التي انتشرت في كل الجهات.تقويم المايا لا يقول بنهاية العالم بحلول 2012-12-12، كما يتحدث الكثيرون، هذا التاريخ لا يمثل شيئاً لدى المايا سوى نهاية دورة من دورات الحياة الكبرى والتي تتكون، حسب تقويم المايا، من خمسة ملايين سنة، ثم تبدأ بعد ذلك دورة جديدة كما يقول الدكتور أنتوني إيفني، عالم الفلك والمتخصص في حضارة المايا بجامعة كولجيت هاميلتون بنيويورك. اكتب هذه الجملة في جوجل (نهاية العالم 2012) بالعربية أو بالإنجليزية أو أي لغة أخرى وستقرأ عجبا، وستجد كيف وصل اليقين من جهة والهلع من جهة أخرى بالبعض حد شراء كميات مهولة من الأطعمة المعلبة والأقنعة التي تحمي من الغازات الملوثة في حين قرر بعضهم الانتحار! لكل حضارة إرثها الخاص، ولكل أمة تاريخها الحقيقي والأسطوري، لكن الجميع يؤمن بنهاية العالم يوماً ما. تنتصر فيه قوى الخير وتهزم قوى الشر، ويُكتب للبشرية عصر حياة جديد. يختلف في مفهومه وتوصيفه وحيثياته من شعب إلى آخر. والمدهش أيضاً أن كثيرا من شعوب الأرض تؤمن بخروج «شخص ما» آخر الزمان، ينتصر للخير وأهله لكنه يختلف في اسمه وسماته من ديانة لأخرى. في الهند مثلاً وحسب التقويم القمري، يعتقد الناس بأن نهاية العالم ستحل بقدوم المنقذ الذي سيأتي في صورة شخص يدعى كالكي، يظهر على حصان أبيض مجنح حاملاً سيفه. البوذيون يسمونه مايتيريا، وفي الإسلام هو المهدي المنتظر، وعيسى المسيح عليه السلام ينزل إلى الأرض لمواجهة المسيح الدجال… بعض الشعوب تعتقد بقيام الحرب العالمية الثالثة التي ستقود بدورها إلى خراب العالم ومن ثم نهايته الحتمية. حسب «عدنان ولينا» المسلسل المأخوذ عن رواية الأمريكي ألكسندر كي «المدّ المذهل» كان يفترض أن تكون نهاية العالم عام 2008 الذي مر وانتهى، فيما بقي مسلسل عدنان ولينا حاضرا في الذاكرة بقوة وذكريات صبا جميلة. (نهاية العالم) لافتة عريضة مثيرة للدهشة والفضول والترقب. البعض يناقش الأمر بجدية كبيرة، آخرون يسخرون حد القهقهة، آخرون يترقبون بصمت، وفئة ما زالت تستيقظ كل صباح لا تلقي لكل هذه الضجة بالاً ولا يهمها أمر نهاية العالم بقدر اهتمامها بنهاية هذا اليوم الدراسي أو الوظيفي الطويل! … في الشعر أيضاً، تظهر فكرة نهاية العالم في الثقافة الغربية مجسدة لأوهام ويقينيات وتأويلات الشاعر. يقول روبرت فروست، أحد شعراء الحداثة الأمريكيين: «البعض يقول إن العالم سينتهي بالحرائق فيما آخرون يقولون بالجليد». إحدى تأويلات هذه القصيدة الشهيرة تعادل الحريق بالشهوات والجليد بالكراهية. فهل أراد فروست أن يقول إن الشهوة والكراهية ستقضيان على العالم؟ دي إتش لورانس يرى أن نهاية العالم بحر هائج والنجاة سفينة، وعليه فيستحسن لكل إنسان أن يبني سفينة تنجيه من «رحلة النسيان التي تنتظره». هذه السفينة موجودة أيضاً في فيلم الخيال العلمي الكارثي (2012) للمخرج رونالد إيميريش الذي أثار ضجة كبيرة في جميع أنحاء العالم بتحويله الأسطورة إلى رعب حقيقي. في هذا الفيلم يزور الدكتور هلمسلي عالم الجيولوجيا الأمريكي صديقه عالم الفلك الهندي الذي يخبره بدوره عن ظهور نيوترونات من الطاقة الشمسية ستتسبب في زيادة حرارة باطن الكرة الأرضية ومن ثم انفجارها في القريب العاجل. الدكتور ينقل الخبر إلى البيت الأبيض الذي يعمل على إخفاء الأمر عن العامة والبدء سريعاً في مؤتمرات سرية مع رؤساء الدول الكبرى لبناء سفينة عملاقة في الصين لأجل إنقاذ البشرية واختيار عينات من كل البشر لضمان بدء حياة جديدة على الأرض بعد الدمار الذي سيحل بها. لكي تحجز لك مقعداً على ظهر هذه السفينة عليك أن تدفع مليون يورو ومثله لكل فرد من أسرتك كما أن سفينة النجاة (اقتباسا من سفينة نوح) هذه لن تتسع لأكثر من 4000 نسمة، إضافة إلى زوج من جميع أنواع الحيوانات والطيور على ظهر الأرض. يصور المخرج الزلازل والانفجارات والفيضانات الهائلة التي تتسبب في غرق العالم، ويظهر في المشهد رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية وهو يموت مع الضعفاء مفضلاً البقاء مع شعبه حتى النهاية. ثم تمر الكاميرا وهي تصور الملايين من المصلين حول الكعبة المشرفة، والألوف التي تحمل الشموع في الكنائس استعداداً للموت. هل هذه هي نهاية العالم؟ تي إس إليوت يقول: «هكذا سينتهي العالم، لا بضجةٍ عنيفةٍ بل بنواحٍ خافتْ».