سوريا ولبنان. حكاية التاريخ والجغرافيا. ووحدة مسار ومصير تؤطِّرها أواصر قُربى يستحيل الفصل بينها. منذ اشتعلت الأحداث في سوريا، تهيَّأ لبنان للحريق. صارت الأولى أرض جهاد وكفاح، فاستحال الشقيق الأصغر أرض نصرة. هكذا بدأت هجرة القتال. مقاتلون لبنانيون ينتقلون جماعات وفرادى في رحلة الموت طلباً لإحدى الحُسنيين: النصر أو الشهادة. لم تعد فلسطين قبلة العرب والمسلمين وحدها. استعارت سوريا اللقب منذ نحو سنتين. شُدَّت الأنظار إلى أرض الشام. بات هناك نكبة جديدة تحاكي فصولها نكبة الأمة العربية في الأربعينيات. ظُلمٌ وقتلٌ وتشريدٌ ودمار. أطفالٌ تُذبح وعجائز تُحرق. مساجد تُدنَّس وكنائس تُهتك وتُهدم. في الحقيقة، أيدي الجميع هنا صارت ملطَّخة بالدماء. الوحشية بلغت ذروة غير مسبوقة. هكذا بدأت القصة ولا تزال. في لبنان، ثمة فصولٌ أخرى للتفاعل مع قصة الشعب الواحد في دولتين.انقسم الإخوة إلى أعداء حيالها. اختار قسمٌ نصرة نظام بشار الأسد عرفاناً منهم بجميل صديق دعمهم أيام الشدة الإسرائيلية كما يقولون، فيما اصطفَّ الآخر في صف ثورة المظلومين المقهورين. يرى أصحاب الموقف الثاني أن نصرة المظلوم واجبة، لا بل فرض عين. وكيف لا؟ وهم ذاقوا الأمرَّين إبَّان وجود النظام السوري في لبنان. وبين هذين، تنأى حكومة لبنان بنفسها. هكذا تُركت حرية الاختيار في يد شعب لبنان المنقسم إلى عدة شعوب. لم تقتصر المسألة على مجرَّد موقف وحرية تعبير، تعدَّاها ذلك إلى دعمٍ بالمال والسلاح والمسلَّحين. انقسام ومقاتلون من الطرفين أرسل تنظيم حزب الله مقاتلين مدرَّبين للمشاركة في الدفاع عن مقدساته وتحديداً المقامات الدينية الموجودة في الشام. ويتردد أنه يشارك الجيش السوري في استشاراته العسكرية كما في معاركه القتالية أيضاً. في المقابل، انبرى آخرون إلى دعم الجيش السوري الحر بالمدد: عديداً وعتاداً. عشرات المقاتلين غادروا منازلهم في طرابلس والشمال للقتال في سوريا. ليس هذا فحسب، بل فُتحت المنازل لاستقبال مقاتلين من الجيش السوري الحر جاؤوا لقضاء فترة استراحة محارب. بدأت معالم الحرب الباردة تسخن وتُرسم في بلاد الأرز. وتم فرز لبنان مناطقياً وطائفياً، ولو لم يكن ذلك حالاً واقعاً حقيقياً. اتُّهم الشيعة بأجمعهم فيه بالوقوف إلى جانب النظام السوري.أما شماله، أي خزَّان الطائفة السُّنية، فاعتُبر أنه الساحة الخلفية لمقاتلي الجيش الحر. والمحصلة باتت على الشكل التالي: لبنان المنقسم على نفسه يتنفَّس على وقع أحداث الأزمة السورية، أما مواطنوه فيُسرعون الخطى على طريق رحلة الموت. درب الجهاد يجمع الفرقاء انطلاقاً مما سبق، كان العنوان «رحلة الموت»، وهو التحقيق الصحفي الذي تنفرد صحيفة «الشرق» بنشره على حلقتين، يسرد التحقيق تفاصيل الرحلة التي يخوض غمارها مئات اللبنانيين منذ بدء الأزمة في سوريا. الرحلة في التحقيق رحلتان، رحلة المقاتلين اللبنانيين الموالين للنظام السوري، وأولئك المعارضين له الذين يناصرون الثورة. يغوص التحقيق في الخلفيات الكامنة وراء خوض اللبناني غمار القتال في أرضٍ غير أرضه، وما يُرافقها من شحنٍ طائفي وغرائزي يلعب الدور الأساس في تشجيع المريدين على سلوك درب رحلة الموت. الموالي والمعارض في لبنان متواجهان، لكنهما يتواجهان بالرصاص في سوريا أيضاً. الدرب إلى ساحة الجهاد، بالنسبة إلى كليهما، ليس طويلاً. يسلك الطرفان طرقاً متشابهة ومتوازية أحياناً والوجهة واحدة. أما النتيجة فلا تزال ملتبسة غير واضحة، لم يظهر منها سوى رائحة الموت؛ إذ لا يكاد يمرُّ يومٌ في لبنان من دون أن يتم تشييع قتيلٍ يسقط هنا وآخر يسقط هناك. وكلاهما في سوريا. معظم الجنازات تجري بشكلٍ سرِّي، باستثناء ما يُفضح منها في الإعلام. وهكذا توارى الجثة سراً في التراب، فلا يبقى غير صورة تُرفع قرب منزل «الشهيد»، تكون شاهداً على ما جرى. يسرد تحقيق اليوم تفاصيل رحلة الموت لمسلَّحين لبنانيين ناشطين في الثورة السورية. يتحدث عن الدافع والغاية والمحرك. ويتطرق إلى التنظيم وآلية التهريب والتنسيق. وتكشف لأول مرَّة عن تفاصيل اشتباك تلكلخ الذي قضى فيه 19 لبنانياً دفعة واحدة، استناداً إلى رواية أحد الناجين من المجزرة التي أشعلت طرابلس في الأيام الماضية. أما حلقة الغد، فستتطرق للمرة الأولى إلى رحلة موت خاضها مقاتلون من حزب الله. لماذا وكيف النظرة إلى ما يجري هناك. الخطر الوجودي الذي يشعر به البعض، إضافة إلى مقابلات مع أفراد عائلات قتلى سقطوا في سوريا. أول «شهيد» لم يكن يعلم أبو عمر دندشلي أنه سيكون أوَّل شهيد يسقط في الصراع السوري – السوري على أرض لبنان. كان الشاب اللبناني، ابن منطقة وادي خالد، يعمل في التهريب، لكن اندلاع الاشتباكات في سوريا دفعه إلى استبدال مواد التهريب. صار السلاح نفط المهرِّبين هنا. وبما أن مخاطر التهريب واحدة في تلك المنطقة الحدودية، اختار المهربون السلاح مورد رزقٍ أوحد باعتباره الأكثر دراً للربح. هكذا بدأت «الثورة» شمال لبنان، علماً أنه لم يكن قد خطر في بال أبو عمر أن مصدر الإغراء المادي الأول سيتحول إلى قضية حرية شعب وأمة ستجذب مئات الشبَّان اللبنانيين إليها، فقيرهم وثريهم على حد سواء. هكذا، كانت بداية أبو عمر مهرباً قبل أن يتحول إلى مقاومٍ يرأس مجموعة تتولى تهريب السلاح من دون مقابل. المجموعة هذه صارت مجموعات. بعضها هدف إلى الكسب والآخر طلب مرضاة الله ونصرة المظلوم. تهريب السلاح هذا تحول إلى تهريب مسلحين، والمهربون أنفسهم صاروا يشاركون بين الحين والآخر في الاشتباكات ضد الجيش السوري. ليس هذا فحسب، صارت هذه المجموعات تؤدي دور الإسعاف ونقل المقاتلين إلى الداخل اللبناني الذي تحول مع الوقت إلى قاعدة خلفية لمسلحي المعارضة السورية. رويداً رويداً، تغيرت قواعد الاشتباك. صار هؤلاء يُنفذون عمليات عسكرية ضد قوات النظام السوري انطلاقاً من الأراضي اللبنانية. عمليات كوماندوس محددة الهدف، تدخل مجموعة لا يتجاوز عديدها أربعة أفراد. يزرعون عبوات ناسفة تحت جنح الظلام ثم يعودون أدراجهم، كأنَّ شيئاً لم يكن. حرب عصابات بكل ما تحمل هذه الكلمة من معانٍ. كان ذلك في الشهر السادس لبدء الثورة. في سبتمبر ما قبل الماضي، سُجلت أول عملية معاكسة. نفّذ الجيش السوري عملية استدراج لمجموعة لبنانية مسلحة، بعدما زرع مُخبراً وسطها. كان الطُّعم شحنة سلاح زعم المستدرجون أنهم سيبيعونه للمجموعة حباً في الثورة. حُدد الزمان والمكان ضمن الحدود اللبنانية، وفي الوقت المحدد وصلوا، لكنهم لم يحسبوا أنهم يسيرون بأقدامهم إلى موت محتَّم. كان كميناً نصبه جهاز المخابرات الجوية في تلك العملية، قُتل أبو عمر دندشلي. ولم تتمكن أفراد المجموعة من سحب جثته. لم يُعلن الخبر فوراً، لكن بعد عدة أيام وُجدت صورة معلقة على جدران قرى وادي خالد. بات أبو عمر، المهرِّب السابق، جيفارا وادي خالد. تغير قواعد اللعبة عقب تلك العملية، تغيرت قواعد اللعبة والاشتباك. لجأ المسلحون اللبنانيون إلى تنظيم عملياتهم. حُفرت أنفاق محمية، وتحولت مستودعات إلى قاعات تدريب نظرية. إعداد العدة كان يجري على قدمٍ وساق. تولى الشيخ م.ح. التنسيق مع الضابط المنشق عبد السلام ح. في القصير لانتقال المقاتلين. هكذا بدأت خلايا المقاومة تنمو. شارك في عملية بناء الهيكلية ضابط متقاعد من الجيش اللبناني ع.ح. تزامن ذلك مع فتح خطوط تمويل مع عدد من الدول العربية. كما قام الضابط المذكور بالسفر إلى ليبيا حيث التقى قادة الثوار للتنسيق من أجل استقدام السلاح. لم يقتصر الأمر على استجلاب السلاح، فُتحت بيوت الأمان لاستقبال ضباط وجنود منشقين وثوار للاستراحة. شارك هؤلاء في تقديم الاستشارات والخبرات للمقاتلين اللبنانيين الصاعدين. إثر ذلك، بدأت مرحلة جديدة. مرحلة مشابهة للتجربة التي عايشها أبناء الجنوب اللبناني في قتالهم ضد إسرائيل. الليل هنا ستار في المناطق الحدودية، يتحول فيه مدنيو النهار إلى مسلحين يتخفون فيه تحت جنح الظلام. حاولت الأجهزة الأمنية قمع هذه الظاهرة، لكنها لم تتمكن. فالاحتقان الطائفي كان قد بلغ أشده. إزاء ذلك، بدأ حراك موازٍ. الإسلاميون السلفيون دخلوا على الخط. تمكن الشيخ وليد البستاني من التسلل إلى القصير حيث أعلن إمارته. أرسل أحد أعوانه إلى منطقة باب التبانة، ومن هناك بدأ تنسيق قدوم المجاهدين. في هذه المنطقة، يندر أن تجد أحد الشبان إلا ويسرد لك تجربة التسلل إلى سوريا بقصد الجهاد. أعمار هؤلاء تبدأ من السادسة عشرة لتصل إلى الخمسين سنة. الكل يفاخر هنا بهذا الشرف. يتحدثون عن واجب ديني يُحتم عليهم نصرة إخوانهم هناك. حادثة تلكلخ كل ذلك لم يكن مكشوفاً أمام الإعلام حتى الإعلان عن حادثة تلكلخ. في تلك المعركة سقط قرابة 25 شاباً ضحية كمين محكم استدرجهم إليه النظام السوري. يروي أحد الناجين من المجزرة أن تلك العملية كانت أكبر عملية تسلل يُنفذونها. إذ لم يسبق أن دخل هذا العدد من المقاتلين دفعة واحدة. يروي الشاب العشريني أن دليلهم أوقع بهم، علماً أنه يؤكد أن الدليل السوري كان قد ساعد في إدخال ثلاث مجموعات قبلهم. يتحدث عن موتٍ محقق شهده بأم العين، فيروي أن تلك المرة كانت الثالثة التي يدخل فيها سوريا. يتحدث الناجي عن سلوك الدليل طريقاً غير معتادة، ولما سأله أخبره بأنه طريق مختصر بعيد عن الأنظار. لكنه يلفت إلى أن الطريق المختصر كان يوصل إلى قرية علوية مؤيدة للنظام. يذكر الشاب أنه لم يعلم كيف بدأ إطلاق النار. يتحدث عن انهمار الرصاص من كل حدبٍ وصوب. يذكر أن اشتباكاً وقع لأكثر من نصف ساعة، متحدثاً عن مدد جاءهم من الجيش السوري الحر الذي تمكن من مساعدته وشاب آخر. ابن منطقة المنكوبين في الشمال اللبناني لا يستطيع الجزم بأن أفراد المجموعة بأجمعهم قُتلوا، يؤكد أنه علم من أفراد الجيش الحر أن ستة منهم استسلموا للنظام بعد نفاذ ذخيرتهم، مشيرا إلى أن أغلب الظن يشير إلى أن الباقين استُشهدوا. وحول كيفية معرفته بأن الدليل متورط، يكشف الشاب اللبناني أن أفراداً في الجيش السوري الحر تمكنوا من استدراجه بعد عدة محاولات، بعدما تبين أنه لم يُقتل في الكمين. ويشير إلى أنهم حققوا معه، فاعترف بأنه قبض من النظام السوري مبلغ 25 ألف دولار مقابل تسليم المجموعة. وهكذا نُفذ حُكم الإعدام بحقه. فور الإعلان عن نبأ استشهاد أفراد المجموعة، عُلقت أوراق النعوة في مدينة طرابلس. غسل أقطاب السياسة أيديهم من مسؤولية إرسال الشبان. استشاط الأهل غضباً، لكن الشبان لم يرتدعوا. الإصرار هنا تضاعف على إكمال مسيرة الشهداء: حرباً حرباً حتى سقوط النظام. هكذا أرست المعادلة النهائية. الشيخ أبو حذيفة وفي موازاة ذلك، تكشف المعلومات الأمنية أن عديد المسلحين المناصرين للثورة السورية يناهز عدة آلاف مقاتل في الشمال اللبناني، جميع هؤلاء مسلحون ومدربون ينتظرون ساعة صفر. وفي هذا السياق، تكشف مصادر مطلعة أن هناك مسارين لا ثالث لهما. سواء سقط النظام السوري أم لم يسقط، فإن مشكلة أمنية ستقع حتماً في لبنان. «لعنة» وحدة المسار والمصير لا تزال تلاحق لبنان. أبو حذيفة بعد سقوط قتلى تلكلخ ، صعد الشيخ السلفي محمد البيزي الملقب ب «أبو حذيفة» على المنبر في خطبة الجمعة. وأعلن الدعوة إلى الجهاد وقتال النظام الكافر في سوريا. ولفت في الشيخ أنه أمَّ المصلّين بجعبة عسكرية ورشّاش حربي إلى جانبه. مقاتلون لبنانيون في طريقهم إلى سوريا