بيروت – الشرق أهالي القصير يتظاهرون صباحاً ويتأهبون للمعارك ليلاً الثوار مقسمون ما بين الجيش الحر وكتيبة الفاروق المشفى الميداني في المدينة الثائرة يشرف عليه «بلّاط» ارتفاع جنوني في أسعار السلاح المهرب أدى إلى ندرته جنود الأسد يسمحون بعبور الثوار للحواجز مقابل المال تنفرد «الشرق»، في الحلقة الثانية من «الطريق إلى سوريا.. من هنا مرّ المجاهدون»، بنشر أدق تفاصيل عملية دخول المقاتلين القادمين من الأراضي اللبنانية، وفي حوزتهم حقائب أسلحة، إلى مدينة القصير الثائرة (جنوب غرب حمص) وكيفية عبورهم الحواجز الأمنية المنصوبة من قِبَل كتائب بشار الأسد. وتتجول «الشرق» في شوارع المدينة التي هجرها غالبية أهلها بعد قصفها، وتنقل واقع المشفى الميداني فيها، كما ترصد ظاهرة ارتفاع سعر السلاح المهرّب إلى الثوار مما ساهم في ندرته. ويرافق مراسل «الشرق» خلال جولته داخل سوريا، التي تمت خلال شهر أبريل الجاري، ضابط منشق يُدعى «أبوعلي»، واثنان من الثوار وهما «أبوحمزة» و«أبوسامر». وكانت «الشرق» نشرت، في حلقة الأمس، رحلة انتقال المقاتلين والسلاح من الأراضي اللبنانية إلى الداخل السوري لدعم الجيش الحر والعوائق التي اعترضتهم وكيف تجاوزوها. هنا في مناطق تجمع الثوار والمقاتلين داخل الأراضي السورية تطول ساعات الليل ويطول معها السمر، وأنيس السهر هنا حديث في السياسة يتخلله احتساء القهوة والشاي، إذ «لا مكان للنوم ولا مكان لمن ينامون»، بحسب عبارة يرددها كهل سبعيني يركن جسده النحيل في زاوية الغرفة التي يجتمع فيها الثوّار، فعلى حد تعبيره «البعثي خبيث (يقصد بشار الأسد)، ينتظر الناس كي يناموا حتى يهجم على القرى ليقتل سكانها». تعليق الرجل السبعيني كان إشارة إلى حملات الدهم التي يشنها أعوان النظام السوري على القرى والمدن السورية، وفيما أنا أصارع النوم مخفياً تثاؤبي خلف ابتسامة أوزعها هنا وهناك، تصدح المكبرات بصوت الأذان معلناً بزوغ الفجر، هنا يتحضر «المجاهدون» لأداء صلاة الفجر، ومن أصلَحُ من رجل سبعيني حتى يؤم المصلّين، فهنا هو «شيخ المجاهدين»، كما ينادونه، يدعوني أحدهم إلى الصلاة يليها الدعاء الدائم «اللهم اقضِ على الطاغوت وأعوانه، اللهم أذلَّ بشار وعائلته»، دعاء تتبعه صيحات المجاهدين مرددين «آمين». إلى «القصير» صلاة الفجر تكاد تكون إيذاناً لتحرك المقاتلين، كأنها ضمنياً بمثابة نداء «حي على الجهاد»، بحسب ما يصفها أبو حمزة، الشاب الثلاثيني من بابا عمرو الذي انشق عن جيش النظام بعدما أُمِرَ بضرب منطقته، أما الوجهة فهي «القصير»، المدينة الثائرة الواقعة على الحدود مع لبنان جنوب غرب حمص. يحزم المقاتلون أمتعتهم ويجهزون دراجاتهم النارية، تبدأ بعدها الاتصالات مع مجموعات الجيش السوري الحر المنتشرة على تخوم القرى المؤدية إلى المدينة لتأمين الطريق، هنا الجزء الأخطر، إذ يتوجب على المقاتلين أن يقطعوا بعض القرى العلوية الموالية للنظام. لحظات تمر تعطي بعدها المجموعات التابعة للجيش الحر الضوء الأخضر للمقاتلين القادمين من لبنان للتحرك، يهم الجميع بالصعود إلى دراجاتهم النارية، يبدأ بعدها «السباق مع الزمان والمكان»، بحسب تعبير الضابط المنشق «أبوعلي» الذي يعلل السبب قائلاً «نسابق استيقاظ القرى العلوية الذي أضنى السهر ليلاً شبيحتها تهيّباً لهجمة من هنا أو هناك»، الرحلة التي تستغرق أربعين دقيقة، يقطعها «المجاهدون» في عشرين، وبمجرد الوصول إلى أطراف القرى العلوية، تختفي كلمة مكابح من قاموس دراجاتهم. وتؤدي السرعة الشديدة إلى ارتفاع عجلات الدراجات الأمامية بين الحين والآخر. هنا لا تستطيع النظر أمامك من شدة الرياح. هدنة غير معلنة الدخول إلى القصير المحاصرة بعشرات الحواجز الأمنية، التي تضم ما يقارب الأربعين ألف نسمة، أسهل مما كنت أتوقع، هنا يبدو أن هناك ما يشبه هدنة غير معلنة بين الثوار وقوات النظام، تلوح المدينة أمامي في الأفق القريب، فيتراءى لي حاجز للجيش النظامي، تنتابني موجة خوف غير مسبوقة، لكن الثوار يكملون التقدم باتجاهه، المشهد الذي ارتسم أمامي يدفع الأفكار السوداء إلى التزاحم في رأسي، أشعر أنني وقعت ضحية لعبة من الاستخبارات السورية لإلقاء القبض عليَّ. أطلب من السائق تخفيف سرعته، كي أقفز وأتوارى بين البساتين والأشجار المنتشرة بكثافة في تلك المنطقة، لكن السائق يهدئ من روعي كي لا ألفت الانتباه إلى كوني «دخيل دفعه فضوله إلى الدخول إلى سوريا»، أصل إلى الحاجز، فيومئ السائق برأسه للمجند المنهك الذي يبدو أنه لم يأخذ إجازة منذ اندلاع الثورة، فيرد الأخير التحية بأحسن منها. أنا الآن رسمياً في القصير، تبطئ الدراجة النارية سرعتها معلنة الوصول، فأسارع باتجاه الضابط أبوعلي أسأله عن سر ذلك الحاجز، يضحك ساخراً «هم على استعداد لبيع شرفهم من أجل المال فما بالك بعسكري على حاجز». على أرض القصير، يلفت انتباهي منزل قديم هجره أهله بسبب موقعه المواجه للقرى العلوية، على واجهته دشمة، يقف خلفها شاب يحمل رشاشاً أوتوماتيكياً، ألقي عليه السلام فيرد بصوت متعب «وعليكم السلام»، يدعوني إلى الدخول فأفعل. في الداخل، افترش المقاتلون الأرض، إنهم منهكون من حراسة المدخل الشمالي للمدينة، لا أريد أن أتحول إلى مصدر إزعاج، أهِمُّ بالخروج فيلفت انتباهي لوحة مشظاة بأكثر من عشر شظايا، كُتب عليها «القصير ترحب بكم»، إلا أن الثوار أضافوا إليها كلمة كتبت باللون الأحمر لتصبح العبارة البادية للعيان «القصير الحرة ترحب بكم»، كما رُفِعَ عليها علم الاستقلال السوري. الحياة في المدينة الثائرة مشلولة، تكاد تكون شبه خالية من السكان، باستثناء بعض المارة الباحثين عن لقمة عيش حُرِمُوا منها لكثرة الاشتباكات على أطرافها بين الجيشين النظامي والحر، أحاول أن أستوقف أحد المارة، وهو على عجلة من أمره، لأسأله عن حاله لكنه يرفض الحديث مكتفياً بالقول «الله ينصر الجيش الحر». أسأل مضيفي أين السكان البالغ عددهم أربعون ألفاً، لكن الجواب يأتيني سريعاً من أبو حمزة «كيف ستجد سكانها، فنصف أهلها هجروها أما النصف الآخر فيبقى مختبئاً». وبينما أتجاذب أطراف الحديث مع المقاتلين، وأسأل عن السكان وأحوالهم وعن سير المعركة، أسمع هدير صوت يأتي من بعيد، فيهرع الجميع إلى الداخل، بعدها يُسمَع دوي انفجار يستتبعه آخر لا يَبعُد سوى عشرات الأمتار عن مكان وجودي. تهدأ الأمور فينفجر جميع المقاتلين بالضحك، يعلّق أحدهم قائلاً «لقد عرف النظام أن لدينا ضيفا، وها هم يرحبون به»، فيما يعقب آخر «هنا لا تعرف متى تأتيك القذيفة، استفد بكتابة التقارير قبل أن تموت». معاقل المنشقين تبدأ جولتي على مراكز الجيش الحر في المدينة، التي يعمل أفرادها بحرية تامة بعدما سيطروا على كافة المراكز الأمنية والعسكرية التابعة للنظام، يتنوع أفراد هذه المجموعات بين منشقين ومدنيين، تختلف أسلحتهم وعتادهم، فمنهم من انشق بسلاحه عن النظام مفضلاً الالتحاق بالثورة بعد رفض إطلاق النار على المدنيين، ومنهم من كان مدنياً التحق بالثورة بعدما قُتِلَ أحد أقربائه. في المدينة أيضاً مجموعات ثورية مقسمة ما بين الجيش الحر وكتيبة الفاروق، القاسم المشترك الذي يجمع الكل «إسقاط النظام» و»تقديم الشهداء»، إذ أكاد لا أصادف أحداً إلا وقدّم شهيداً، ورغم ذلك، أجده يصر على إسقاط النظام. يرأس كل مجموعة قائد ميداني يتلقى أوامره من قيادة الجيش الحر في تركيا أو المجلس العسكري لكتيبة الفاروق، إذ إن الأخيرة هي المسؤول الأول عن تأمين السلاح والعتاد للمقاتلين، والذي يتنوع بين الفردي والمتوسط، وفي بعض الحالات النادرة، السلاح الثقيل الذي غنمه الثوار من هجماتهم على المواقع العسكرية أو ما تيسر لهم تهريبه عبر الحدود اللبنانية السورية. ارتفاع سعر السلاح خلال جولتي، يلفت انتباهي سلاح ثقيل روسي الصنع من نوع «دوشكا»، أتقدم لالتقاط صور للمجاهدين، كما يحلو لأبوعلي مناداتهم، أستأذن في أخذ الصور لكن هؤلاء يرفضون، لا لأنهم يكرهون عدسة الكاميرا، بل لأن السلاح تنقصه الذخيرة، أكرر طلبي، لكنهم يصرون على استمهالي حتى يستعيروا بعض الذخيرة من مجموعة أخرى. يطول انتظاري، فأهم بمتابعة جولتي، لكن الذخيرة تأتي إلا أنها لا تزيد عن دائرة واحدة يصر حاملها على إعادتها فوراً بعد التقاط الصور، فهنا الذخيرة نادرة، يتحلق الجميع حول المدفع الرشاش، وبينما يهم أحدهم بوضع الدائرة، يقترب أحدهم منها ليقبلها ضاحكاً ويقول «اشتقنا لك منذ مدة لم نرك»، أسأل أبوعلي عن السبب وراء قلة السلاح والذخيرة فيرد عليَّ بأن «تهريبه يكاد يكون مستحيلاً هذه الأيام، كما أن ارتفاع الأسعار وصل حدّاً جنونياً، أكمل ملاطفتي بأسئلتي لبعض «المجاهدين»، فيلفت انتباهي لهجة أحدهم التي تبدو أقرب للخليجية، منها إلى السورية، أسأله إن كان من منطقة حدودية وانضم إلى الثوار، يتمنع في بادئ الأمر عن الإجابة، لكن تشجيع الشباب له للحديث يكسر حاجز الخوف لديه، فيعرِّف نفسه باسم أبو رائد (اسم مستعار) ويضيف «ما يحصل هنا هو جهاد، واجبي الشرعي كمسلم أن أدافع عن كرامة المسلمين»، يستتبع ذلك بالقول «لكن اطمئن، أنا عائد إلى بلدي لأن الشباب طلبوا مني ذلك، هم بحاجة إلى المال». كلمات أبو رائد بقِيَت تجول في الخاطر خلال الأمسية الهادئة في القصير التي لم يقطعها إلا بضع رشقات من جهات عدة ودوي انفجار بعيد، أخبرني مضيفي أنها عملية لإحدى كتائب الجيش الحر في قرية موالية للثورة. في ثاني أيام الرحلة، أبدأ نهاري بتظاهرة صباحية، يتجمهر الناس على عجلة من أمرهم، كمن يريد أن يؤدي واجبه ويغادر قبل أن تصل صواريخ المدفعية المرابضة على السفوح المقابلة للمدينة، يتأخر الخطيب بضع دقائق فيظهر التململ على وجوه الحاضرين، يقول أحدهم «نريد الحرية ولكن إذا تأخرنا أكثر لن نعيش طويلاً لرؤيتها تتحقق»، الإشاعة وجدت لها مرتعاً في القصير، يأتي أحدهم ليقول إنه رأى جنود النظام ينتشرون على تخوم المدينة ما يعني أن جولة جديدة من القنص وإطلاق الرصاص ستبدأ، يلغي الخطيب كلمته طالباً من الجميع العودة إلى منازلهم والتزامها، تمر الدقائق وعناصر الجيش الحر على أهبة الاستعداد للمواجهة في حال لو فكر النظام وجنده في الدخول إلى المدينة، حال الترقب الحذر تستمر لساعتين وفي كل دقيقة أتهيأ نفسياً لسماع دوي الانفجارات والمعارك، لكن شيئاً من ذلك لا يحدث، يمل الجميع من حالة الانتظار ورويداً تعود الحياة إلى طبيعتها. في المشفى الميداني أستكمل الجولة على متن الدراجة النارية لمقابلة المزيد من «المجاهدين» في الخطوط الأمامية، يعدني مضيفي بزيارة السجن الذي أنشأه الثوار في المدينة بعد أن تحررت، لكن مضيفي يتذكر أن المشفى الميداني على الطريق المؤدي إلى المحطة التالية، يستأذنني في الدخول إليه لبضع دقائق، كي يستعلم عن نتائج العملية التي قام بها الثوار في الأمس، يُسِرُّ لي أن المطعم القديم الذي تحول إلى مشفى يستقبل جرحى الجيش الحر والمؤيدين للثورة من مختلف مناطق حمص بعدما أصبحت المستشفيات الحكومية التابعة للنظام مراكز اعتقال وتعذيب وقتل من قِبَل الأمن والشبيحة. المشفى هنا تحول إلى نقطة هامة لجمع المعلومات عن سير الأحداث، فهنا تصادف جرحى من مختلف المناطق. ما أن تدخل إلى المشفى حتى تدرك حجم الكارثة الطبية التي تجتاح المدينة، غرفة الجراحة هي الزاوية القديمة للمطعم التي شهدت في الماضي غسل الأطباق والصحون، ها هي اليوم تُستَخدَم كغرفة جراحية تفتقر إلى أبسط مقومات التعقيم، أما بالنسبة لطاولة العمليات، فهي تلك الطاولة الخشبية للمطعم الذي كان يستقبل الزوار، تحولت بعد اقتلاع أطرافها إلى طاولة للعمليات، دماء الجرحى غطت كل شبر من المشفى، أراهم على الأرض والأسرَّة والكراسي، يستلقون ينازعون الموت على أمل أخذ دور لهم في العلاج قبل فوات الأوان، أو على أمل أن تُفتَح الطرقات حتى يتمكن الجيش الحر من تهريبهم إلى لبنان لتلقي العلاج، أسأل هذا وذاك من أين أنت؟ فيأتيني الجواب، من بابا عمرو، الخالدية، القصير، البياضة، يستوقفني ذلك الصبي الذي تملأ صرخاته أرجاء المشفى، أحاول أن أسأله ما الذي حدث لك؟ يطلب مني الرحيل والابتعاد عنه والدموع تنهمر على خديه، تقترب مني امرأة خمسينية تقول إنها أمه، ترجوني ألا ألتقط لولدها صورة، لأنهم من مدينة حماه وعائلتها مازالت محاصرة هناك، وتضيف قائلة «ولدي البالغ من العمر اثني عشر ربيعاً كان مع أصحابه في تظاهرة مناهضة للنظام عندما بدأ إطلاق النار عليهم»، تخبرني أنه كان يرفع يديه مطالباً بالحرية فأصابته «رصاصة الغدر» من أحد قناصة النظام، اقتلعت له أصابعه وثلثي كفه الأيمن. في الوقت الذي تنتحب فيه الوالدة التي تبكي كالثكلى، يقترب رجل ثلاثيني يعرف نفسه بأنه الطبيب المسؤول في المشفى، يطلب مني أن أوثق كل تفاصيل المشفى، كما يبدي استعداده لاصطحابي في جولة ميدانية على الرغم من ضيق الوقت، يخبرني أن عمله الأصلي كان بلّاطاً قبل اندلاع الثورة، لكنه ترك مهنته ليبدأ العمل في المشفى الميداني. يستفيض بالشرح قائلاً «إننا نرتجل في كثير من الأحيان»، لأن أطباء الثورة لا يستطيعون أن يُغطُّوا الأعداد الهائلة للجرحى، ويكمل «نجد أنفسنا أمام حالة طبية طارئة، فإما أن نساعدهم أو نتركهم يموتون». ويلفت إلى أن ما خفي كان أعظم، إذ إن «معظم الآلات الطبية على قلتها لا تعمل أو أنها لكثرة استعمالها تعطلت، فآلة التخدير تعطلت منذ سبع ساعات، ما يعني أن أي عملية جراحية ستتم من دون تخدير، فإما أن يصمد المريض أو أن يموت من الألم. طريق الخروج من المشفى لم تكن عادية، أضطر لأن أقفز من فوق جثة سدت المدخل الرئيس تعود لأحد المقاتلين من عملية الليلة الماضية عجز المسعفون عن إيقاف نزيفه الداخلي بعدما أصابته عدة شظايا من قذيفة مدفعية. الطريق إلى سوريا.. من هنا مرّ «المجاهدون»: 1. الشرق ترصد رحلة نقل السلاح والمقاتلين إلى سوريا.. وتدخل معاقل الجيش الحر 2. مقاتلو الجيش الحر يفرضون سيطرتهم على مدينة القصير جنوب حمص بالكامل 3. غداً: تفاصيل العمليات العسكرية ضد كتائب الأسد.. وسجن «ثوري» لجنوده التظاهرات تعم القصير في الفترة الصباحية (الشرق)