هكذا تتواصل دوامة الأحداث المفاجئة والمتواصلة، لتنقل تونس شيئا فشيئا من منطقة رمادية إلى أخرى أكثر قتامة، وكأن يدا مجهولة تدفع بالبلاد نحو نهاية تراجيدية قد يكتشفها التونسيون في صبيحة يوم من الأيام، وعندها ستدرك النخبة السياسية أنها فرطت في فرصة تاريخية قد يكون من الصعب تكرارها طيلة هذا القرن الذي لايزال في بداياته. ما حدث من عنف واقتحام لمقر الاتحاد العام التونسي للشغل وإسالة دماء النقابيين في ردهاته، قد خلف وراءه كثيرا من الأسئلة المحيرة. ولعل أهمها: إلى أين تسير تونس بعد ثورتها المجيدة؟ أول علامات الاستفهام تزامن تلك المعركة السريالية مع الانتهاء من توقيع الأطراف الاجتماعية على اتفاق الزيادة في أجور عمال وأجراء القطاعين الخاص والعام. وهو اتفاق هام، تطلب جهودا مضنية قام بها فريق من الطرفين، وكانت تنوي الحكومة أن تجعل منه حدثا سياسيا تؤسس عليه مرحلة جديدة من التعاون بينها وبين الاتحاد العام التونسي للشغل. ولهذا أصيب الأمين العام للاتحاد حسين العباسي بالصدمة القوية، عندما وصل إلى بطحاء محمد علي التي تحيط بمقر أكبر النقابات في العالم العربي، ليعيش فيلما من أفلام الرعب بين جموع من أعضاء «رابطات حماية الثورة» القريبة من حركة النهضة وبين حراس الاتحاد وعدد من كوادره. والغريب أن الصدمة لم تقف عند مستوى الأمين العام للاتحاد، وإنما كانت وطأتها أشد على رئيس الحكومة، الذي كان خالي الذهن من هذا التجمع الذي قام به «البعض» أمام الاتحاد. وهو ما زاد من غموض الحدث، ودفع بالعباسي إلى الاعتقاد بأنه قد «غرر به»، مما جعله يندفع نحو اتهام رئيس الحكومة وحركة النهضة ب»الازدواجية في الخطاب»، ويمتنع عن الرد على هاتف مكتب حمادي الجبالي. الأهم من ذلك من أراد أن يفسد التقارب الذي تم بين الرجلين، وأن يعيد العلاقة بين الاتحاد والحكومة إلى المربع الأول؟ ما حدث في الذكرى الستين للزعيم النقابي فرحات حشاد الذي اغتالته عصابة اليد الحمراء التابعة للمخابرات الفرنسية، تمتد جذوره إلى ساحات المركب الجامعي في ثمانينات القرن الماضي، حين كان الإسلاميون واليساريون يخوضون أولى معاركهم الأيديولوجية والسياسية. وبالرغم من قسوة الدكتاتورية التي عانى منها الجميع، ورغم حجم التطورات الضخمة التي حدثت في البلاد على إثر الثورة التي غيرت المعادلات، فقد استمر التناحر بين الفريقين، خاصة بعد الانتخابات. فحركة النهضة مؤمنة إيمانا راسخا بوجود مؤامرة ضدها، وتعتقد بأن ماكينة الاتحاد قد أصبحت ممسوكة من قبل التيارات اليسارية. وينطلق مسؤولوها في استقرائهم ذاك من نتائج انتخابات المؤتمر الأخير للاتحاد. وبناء على ذلك يربطون بين مجمل التحركات الاحتجاجية التي اكتسحت البلاد طيلة الأشهر الماضية وبين صراعهم التاريخي مع قوى اليسار. وفي هذا السياق هم يلتقون في هذه القراءة مع حليفيهما في الترويكا، كما سبق للسيد الباجي قايد السبسي أن اتهم أطرافا من اليسار الراديكالي بتسييس الحركة النقابية، وذلك خلال إدارته للمرحلة الانتقالية السابقة. ويذهب عديد النهضويين إلى القول بأن الاتحاد قد سقط في متاهات الثورة المضادة، ويتهمون قيادته أو جزءا منها بالعمل على الإطاحة بالحكومة وتهديد الشرعية، وذلك تنفيذا لاستراتيجية أقصى اليسار. وقد لخص ذلك رئيس الحركة السيد راشد الغنوشي عندما اعتبر أن الاتحاد «واقع تحت تأثير عناصر تقوم بدور سياسي راديكالي للمناداة بثورة أخرى على حكومة منتخبة وشرعية». بقطع النظر عن مدى صحة هذه القراءة، فالمؤكد أن الذين رفعوا الشعارات المطالبة بتطهير الاتحاد يوم ذكرى الشهيد حشاد قد ارتكبوا خطأ تكتيكيا قاتلا. لقد اختاروا الوقت غير المناسب والمكان غير المناسب لممارسة حقهم في نقد الاتحاد. وسواء هم الذين بادروا بالعنف كما تقول معظم الأطراف أو أنهم ردوا الفعل على عنف تعرضوا له كما تؤكد حركة النهضة، فالنتيجة لم تكن لا في صالحهم ولا في صالح النهضة والحكومة. بل إن المستفيد الرئيسي مما حصل هم خصوم النهضة التي جاءت لتندد بهم. لأن الهجوم على مقر الاتحاد، واقتحامه وممارسة العنف داخله وتعرض قياديين فيه للضرب، لأول مرة في تاريخ الحركة النقابية، كل ذلك من شأنه أن يحشر الحركة وأنصارها في زاوية حادة. ولهذا السبب لم تجد النهضة من يقف إلى جانبها، بمن في ذلك حليفاها في الحكم. وبذلك يكون هؤلاء الذين نظموا هذا التجمع قد تسببوا في فتح باب المواجهة من جديد مع الاتحاد، وجعلوا جزءا هاما من الرأي العام يعتقد بأن إسلاميي النهضة يريدون السيطرة على الحركة النقابية، وهو ما لايمكن أن يقرهم عليه أي طرف من الأطراف. واللافت للنظر أن هذا الانزلاق يحصل في وقت صعب تمر به الترويكا على إثر خطاب الرئيس المؤقت منصف المرزوقي، والذي بمقتضاه تم نسف قواعد اللعبة بين الحلفاء، وجعل مصير هذا الائتلاف معلقا في السماء، كما كشف عن أزمة ثقة حادة تتجه نحو الإطاحة بهذه التجربة. فالمرزوقي دعا إلى تغيير حكومي عميق، تتشكل بمقتضاه حكومة مصغرة تتكون من كفاءات وليس من سياسيين، وتكون بعيدة عن المحاصصة الحزبية. وهو ما اعتبرته النهضة تراجعا عن التوافق، وهددت في المقابل بسحب الثقة من الرئيس نفسه. المؤكد أن هذه الحادثة لن تمر بسلام، وهي ستترك مخلفاتها لأشهر عديدة. وكانت نتيجته إعلان الاتحاد عن تنظيم إضراب عام هو الثاني في تاريخ الحركة النقابية التونسية. ومع ذلك فإن العمل على تطويق تداعياتها السلبية مسألة مؤكدة وضرورية. لأن التصعيد السياسي والاجتماعي لن يخدم الاتحاد الذي هو بالفعل ليس حزبا سياسيا وإن كان من حقه أن يدافع عن الحريات وعن الديمقراطية. كما أن ما جرى لن يخدم المعارضة، حتى ولو أنها كانت المستفيد الرئيسي مما حدث. وبذلك تكون تونس قد دخلت منطقة الخطر.