عندما دلفت إلى أحد الأسواق الغذائية الضخمة، وجدته في ركن المجلات والجرائد حانقاً وحزيناً يقلب في الأرفف وما وراءها ويكرر البحث دون جدوى. بما أن زائري هذه الأركان قد تضاءلوا وربما تبخروا أحياناً، فقد وجدت الفضول يدفعني إلى سؤاله، عن ماذا يبحث، فقد أتمكن من مساعدته. كان رجلا قد تجاوز الستين من عمره، وبعد تنهدات عن الرقابة والمنع، بادرني بالقول إنه يبحث عن كتاب أرفقته مجلة «الدوحة» الشهيرة مع عددها الأخير، سألته ما اسم الكتاب فقال: «طبائع الاستبداد» لعبدالرحمن الكواكبي. كنت قد اشتريت نسختي من البحرين مع الكتاب الهدية، وتوقعت بحكم خبرتي المحنّكة ألا يمر إلى السعودية عطفاً على التشدد الرقابي الذي عرفناه في مداخل مدننا ومطاراتنا. لكنني خمّنت أن انطباعي القديم هذا ينبغي أن يتغير بعد أن فاضت قنوات ووسائط الميديا بما رحبت. أخذت أبحث مع الزائر لعلنا نجد شيئاً لكن بلا طائل، المجلة موجودة فعلاً لكن الكتاب، الذي نشر لأول مرة عام 1902م، لم يشفع له أحد ليعبُر إلى مكتباتنا. قلت له إن منزلي على بعد خطوات وسوف أسعد أن أمنحه أو أعيره الكتاب، لكنه اعتذر فهو ذاهب إلى البحرين غداً وسيحصل على نسخته من هناك. حدث هذا قبل أشهر، لكنني تذكرته وأنا أقرأ خبر السجن (المؤبد) للشاعر القطري محمد بن الذيب العجمي بسبب قصيدة اعتبرتها السلطات القطرية تحريضاً على قلب نظام الحكم، وقد تدخلت جهات قضائية وحقوقية دولية وعربية لنقض الحكم والإفراج عنه، لكن القضاة لم يتراجعوا بل إن الشاعر بدأ سجنه بسنة في زنزانة مفردة. وهكذا يتشرذم مفهوم الحرية في بلد يرفع لواء الرأي والرأي الآخر، بل إنه يتراجع في واحة مبكرة للعمل الديمقراطي هي الكويت حين تضيق بتوقيع كتاب لبدرية البشر. هل يمكن لشاعر اليوم، كائناً من كان، أن يطلق خيالاته ليفكر في قلب نظام حكم؟ ماذا يمتلك الشاعر من عدة وعتاد ليغامر بهذه الفعلة؟. لنلاحظ أن هذا المسلك كله، أي أن يكتب شاعر قصيدة هجاء في نظام الحكم، ثم ترد عليه الدولة بالسجن والمحاكمة والأحكام القاسية، لا يوجد إلا في ثقافتنا ومجتمعاتنا. لا يحدث لشاعر بريطاني أو لروائي أسكندنافي أو فنان مكسيكي مثلاً أن يؤخذ عمله الأدبي والفني، أو يفسّر على محمل تهديد أمن الدولة، إلا إذا كانت هويته الأدبية ملتبسة بفعل إجرامي يخرج عن القانون الذي ينظم ويحمي حياة الناس. ظاهرة منع الكتب وإحراقها ليست جديدة في التاريخ، لكن هذه الظاهرة فقدت أساسها وجوهرها حين أنعمت علينا التقنية الحديثة بإحضار كل سيول الكتب الممنوعة والمارقة ونحن ننعم بالدفء في أسرّة منازلنا. وما نشكو منه الآن، هو أننا لا نملك من الوقت ما يكفي لنقرأ ما نحب!