الخدمة البريدية تعدّ حاجة ملحّة لكل المجتمعات البشرية، باعتبارها أداة تواصل لا غنى عنها على مر العصور. ذلك التواصل الضروري لنمو وتطور الحياة. وقد بدأت فكرة الخدمة البريدية منذ قيام الحضارات الإنسانية الأولى. إذ بدأت منذ أكثر من أربعة آلاف سنة عند قدماء المصريين، ثم انتشرت، في البدء، في الصين وفارس واليونان القديمة. وازدهرت منذ اختراع سفن البخار، وخطوط السكة الحديد. وشهدت تطوراً مفصلياً بإبرام «المعاهدة الدولية للاتحاد العام للبريد»، عام 1874 في مدينة بيرن، عاصمة سويسرا. وازدهر البريد أكثر بتطور وازدهار النقل الجوي، منذ النصف الأول من القرن العشرين. ومازالت هذه الخدمة تتطور، وتتقدم في أغلب دول العالم. وما حصل من تطورات هائلة في مجال النقل والاتصالات لن يؤدي -كما يبدو- إلى إلغاء هذه الخدمة، أو توقفها. فستظل كل المجتمعات البشرية بحاجة إلى البريد الورقي والعيني، مهما تقدمت وسائل الاتصال الأخرى، وسادت. وفي المملكة أنشئت «المديرية العامة للبريد» عام 1356، وألحقت بوزارة المواصلات. وصدر «نظام البريد» عام 1406. ثم تم تحويل خدمة البريد إلى مؤسسة عامة. وصدر تنظيم مؤسسة البريد السعودي عام 1423، وسلمت لهذه المؤسسة كل المنشآت والمباني الضخمة التي أنشأتها الدولة، المجهزة بأحدث وسائل التقنية البريدية. وكانت خدمة البريد لدينا متواضعة، ورغبة من الحكومة في تطوير وتحديث هذا القطاع، حولته إلى مؤسسة هادفة وأتاحت الفرصة لهذا الجهاز الحيوي للتطور، وتقديم الخدمة البريدية للمواطنين والمقيمين بشكل أيسر وأفضل. والسؤال الذي نود بإلحاح طرحه هنا هو: هل الخدمة البريدية لدينا أفضل في العقد الأخير، نسبة إلى السابق؟ هل تطورت بما يتناسب والحاجة والمستجدات والإمكانات؟! نحاول في هذا المقال، والذي يليه، الإجابة الموضوعية والموثقة عن هذا التساؤل الذي تفرضه أهمية الخدمة البريدية للناس، والحاجة الماسّة لخدمة بريدية أفضل. إنني مضطر للتعامل مع البريد منذ حوالي ربع قرن، بحكم عملي الأكاديمي واهتماماتي العلمية، وذلك عبر استئجار «صندوق بريد» تصل إليه الرسائل الخاصة بي. لم يسبق أن أوصل البريد إلى رسالة واحدة إلى منزلي، إلا مؤخراً -وبتعثر- وبعد أن اضطررت للاشتراك في ما يسمى بخدمة «واصل»! وكم تجشمت مصاعب ومتاعب المرور على صندوق بريدي، على الأقل مرتين في الأسبوع، سواء بنفسي، أو من خلال مندوب من قبلي. لقد تعلمت أن على «المشترك» بذل بعض الجهد والوقت للحصول على ما يصله من رسائل أن يكون هو «ساعي بريد» لنفسه. أما توصيل الرسائل إلى منازل أصحابها -كما هو الحال في معظم بلاد العالم- فلم يكن -كما يبدو- في قمة أولويات بريدنا العتيد. لقد استحدث البريد خدمة «واصل» لهذا الغرض. ولكن هذه الخدمة مازالت غامضة ومتعثرة، ومازال على من يريدها أن يدفع رسوماً! ويمكن القول: إن توصيل الرسائل إلى منازل أصحابها -بشكل منتظم ودقيق- مازال حلماً يراود الذين لا يستغنون عن الخدمة البريدية، أينما ذهبوا. أظن أن هذه التجربة الشخصية -الطويلة نسبياً- تخوّل لي إبداء رأي موضوعي في خدمة بريدنا السعودي. ولكن رأيي هذا قد يكون هامشياً إذا أخذنا في الاعتبار: رأي غالبية الجمهور المستهلك لهذه الخدمة، ورأي بعض أهل الرأي الذين يعبرون -بصدق- عن آمال الناس في مجتمعنا، وآلامهم. أعتقد -والله أعلم، ومن ملاحظة عامة- أن رأي غالبية الناس في الخدمة البريدية الحالية غير إيجابي. وكذلك رأي من كتب عن هذه الخدمة في بعض وسائل الإعلام لدينا، وخاصة في عام 1427، عندما تصدى عدد من الكتاب السعوديين المرموقين لما أحدثته مؤسسة البريد من إجراءات، ورسوم زادت الطين بلة. ولدي ملف كامل بأغلب هذه المقالات، لمن يريد الاطلاع في هذا الشأن. بعد تحول البريد إلى مؤسسة عامة، تفاءل المعنيون بأن الخدمة البريدية السعودية ستتطور، وأن نسبة «الفاقد» ستقل، أو تنعدم، وأن البريد سيقوم -بالفعل- بأداء دوره التقليدي المتعارف عليه عالمياً، منذ اختراعه، وهو: توصيل الرسائل للمرسلة إليهم. وهذا يعدّ -في الواقع- حقاً للمرسل، وواجباً على جهاز البريد يستحق فور دفع المرسل قيمة توصيل الرسالة (طوابع البريد). ولكن مؤسسة البريد السعودي بادرت بمضاعفة تكلفة البريد أضعافاً، واستحدثت نظام «واصل» -العجيب والمتعثر أصلاً- لتوصيل الرسائل، مقابل «رسوم» إضافية! ورغم كل ذلك، مازالت الخدمة دون المستوى المطلوب والواجب. وفي الوقت الذي تراوح فيه الخدمة البريدية لدينا مكانها -أو تتقدم ببطء- يطلع علينا البريد الموقر ببرامج «توصيل» متنوعة للرسائل والبعائث وكأن لسان حاله يقول: اتركوا الخدمة البريدية التقليدية -فهي موجودة والسلام- وهلموا للاشتراك في «خدماتنا» الجديدة «المبتكرة»! نعم، تطور بريدنا قليلاً، ولكنه مازال مقصراً في أداء مهمته الأساسية. ولهذا الحديث صلة.